رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متى نتوقف عن المظهرية؟

بقدر ما تملك الشخصية المصرية من جينات أصيلة ومبدعة. بقدر ما طغت عليها عيوب خطيرة أشبه بالبثور التى تظهر على سطح الجلد فتشوه مظهره وتضفى على المظهر العام بعض الدمامة.

من جملة هذه العيوب تحتل «المظهرية» مرتبة متقدمة وتختلط بغيرها من العيوب مثل التدين الشكلى وتقديس المال، واعتباره دليل نجاح الإنسان فى مجتمعنا، وإهمال الجوهر لحساب المظهر، وعدم تقدير أنواع الرزق المختلفة التى ينعم بها الله على عباده باختلاف الرزق المادى.

إن ما دفعنى للتفكير فى هذه الخصلة الاجتماعية التى طغت على المصريين هو ما لاحظته من ميل بعض المصريين لتضخيم إنجازه المادى والتظاهر بما يملك باعتباره دليلًا وحيدًا على نجاحه فى الحياة.. وقد يكون من يفعل هذا ليس غنيًا بالمعنى الشائع للكلمة ولكنه يرى أن ادعاء الغنى إثبات لنجاحه فى رحلة الحياة، فأنت قد تقابل قريبًا أو صديقًا لم تره منذ فترة طويلة فينخرط أمامك بالمباهاة ببعض الإنجازات الصغيرة، كأن يتعمد ذكر عدد أجهزة التكييف فى منزله، أو يخبرك عن نوع سيارته، أو عن المدارس الخاصة التى ألحق بها أولاده.. هذا الصديق أو القريب هو فى الأغلب الأعم شخص شريف، حاله مثل حال معظم المصريين، وقد يحظى ببعض النعم التى لا يدركها مثل السعادة الأسرية، أو تميز الأبناء فى التعليم، أو الصحة، أو موهبة يحظى بها أحد أبنائه، لكنه يترك هذا كله ليحدثك عن مستوى حياته العادى غالبًا الذى يحاول أن يصوره لك على أنه مرتفع، رغم أنه قد يخلط هذا ببعض الشكوى من العجز عن الوفاء بهذه الالتزامات التى يحرص عليها ويعتبرها إنجازه الأكبر فى الحياة ولا يلتفت لإنجازاته الأخرى أو للنعم التى أنعم بها الله عليه، سبب رئيسى لهذه المظهرية هو طغيان قيمة الثراء والمال على حياة المصريين منذ عقود طويلة، واعتباره معيار كل شىء، وميزان كل نجاح، واعتبار أن قيمة الشخص فيما يملك، بغض النظر عن طريقة حصوله على المال، وما إذا كانت طريقة شريفة أو غير شريفة، هذه المظهرية تعبر عن نفسها فى قرانا وأحيائنا الشعبية، حيث أصبحت تقام زفة شعبية خاصة لجهاز العروسين وليس للعروسين نفسيهما، ويتم خلالها استعراض جهاز المنزل الذى تنقله عدة سيارات رغم أن الجميع يعيشون بستر الله ورضاه غالبًا، ورغم أن العريس والعروس والمشاهدين من المستورين بالكاد أو الفقراء، ولكنها المظهرية التى تدفع الأمهات إلى الاستدانة وتوقيع إيصالات أمانة تنتهى بهن إلى السجن، ومن البسطاء إلى الأثرياء تشيع المظهرية فى عدة قرى حديثة من الساحل الشمالى، حيث تنتقل النخبة الاجتماعية والاقتصادية فى شهور الصيف، وبدلًا من أن يكون الصيف فرصة للاسترخاء، والحياة البسيطة، والتخفيف فى المأكل وأعباء المظهر، يحدث العكس تمامًا، حيث التسابق على ارتداء أعلى الماركات العالمية والسيارات، وحيث تلتزم السيدات بالمظهر الكامل من حيث التجميل ومستلزماته، وتقام الموائد الفاخرة، لتختفى فكرة المصيف كاستراحة من الحياة وروتينها لحساب فكرة المظاهر والصراع على إثبات مَن أكثر ثروة وإنفاقًا من الآخر.. هذه المظهرية امتدت سنوات طويلة لتطغى على علاقة المصريين بربهم، فلم يعد التدين علاقة خاصة بين العبد وربه بقدر ما أصبح طقسًا للرياء وتحقيق المصالح، فالأثرياء يتباهى كل منهم بقدرته على دعوة داعية معين ليلقى درسًا فى بيته، وهو يجزل العطاء لهذا الداعية حتى يحظى به، ويتفنن فى أن يكون العشاء المصاحب للدرس غاية فى الفخامة والتنوع حتى يبتز أقرانه من المنافسين ويتغلب عليهم، وهو يحرص على أن يكون المدعوون من أعلى فئات المجتمع ثراءً وأهمية.. وبعد أن يتحقق كل هذا تكتشف أن الدين كان ستارًا لكل هذه المظهرية، وأنه كان العنصر الأقل أهمية فى الموضوع.. وما ينطبق على هذه الدروس المزيفة، ينطبق على رحلات الحج الفاخر، التى تختفى فيها حكمة الحج الحقيقية، ويدفع المشتركون فيها مئات الآلاف كى يجلسوا فى خيمة مكيفة على جبل عرفات ويأكلوا أغذية محمولة بالطائرة من أوروبا، وينجز بعضهم صفقات تجارية مع أقرانه فى انتظار مغرب يوم عرفة، ثم يعود بالطائرة سريعًا وقد حمل لقب حاج للمرة الثلاثين أو الأربعين ويتباهى بذلك، وتسأل نفسك ما الذى جناه هذا الحاج غير المظهر.. فلا تجد جوابًا بأى حال من الأحوال.. لقد قتلت المظهرية المصريين وأضاعت عليهم فرص التقدم والإنجاز، وحرمتهم من التمتع بجوهر الأشياء لا مظهرها.. فما أحوجنا لثورة ننسف بها هذا الوثن الذى نقدسه ونطوف حوله ونتقرب له وهو لا يملك لنا إلا الضرر.. ما أحوجنا إلى ثورة اجتماعية تواكب ثورتنا السياسية وتسبقها وتمهد الطريق لمجتمع جديد يليق بمصر والمصريين.