رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإنسانية المفقودة فى الصداقة العصرية

من المؤكد أن العلاقات بين الأصدقاء، خاصة بين النساء قد تغيرت تمامًا ولم تعد كما كانت وكما عهدناها. إننى أنظر إلى مشهد المجتمع حاليًا فأرى أن الكثير من الإنسانية قد اختفى من العلاقات وحلت محله لغة المصالح، حتى العلاقات بين أقرب المقربين.

فقد كنا مجموعة من الصديقات، منذ بضعة أيام، نجلس معًا ونتحدث ونبدى رأينا حول متغيرات الحياة والسلوكيات التى حدثت منذ بضع سنوات، فتطرقنا إلى علاقات الصداقة العصرية بين السيدات، خاصة علاقات الصداقة الممتدة عبر عدة سنوات أو الصداقة التى نطلق عليها «عشرة العمر»، فإذا بنا نكتشف أن الكثير قد تغير فى مواصفات الشخصيات فلا شىء يبقى على حاله وأصبحت الصداقة العصرية فى مهب الريح.

ولم تعد عميقة أو تقوم على المحبة والعطاء المتبادل والثقة والإخلاص والحفاظ على الصديق والوضوح والصراحة، فلا الصداقة أصبح فيها الإخلاص والمحبة أو العطاء المتبادل، ولا أصبح الأصدقاء يكترثون بجرح بعضهم البعض، بل إن مبدأ الإخلاص فى الصداقة قد اختفى أو كاد وتحول إلى لغة المصالح والمظاهر والأنانية.

حكت لى صديقة مقربة منى عن قصة طريفة توضح مدى التغير الذى حدث فى مفهوم الصداقة الذى نعرفه، والذى تعكسه هذه القصة التى وقعت مؤخرًا بين مجموعة من الصديقات، اللاتى يعرفن بعضهن البعض منذ عشرين عامًا أو أكثر، واللاتى يفترض أنهن صديقات مقربات، إلا أنها تحولت إلى قصة شهيرة يتداولها المجتمع باعتبارها تؤكد اختلاف مفهوم الصداقة المستديمة، والتى تعكس مدى التغير الكبير الذى حدث فى مجتمعنا وقيمنا فى السنوات الأخيرة، وتتلخص القصة فى أن هناك سيدة ذات ثراء ظاهر عليها فى ملابسها ومظهرها ظهرت فى المجتمع فى السنوات الأخيرة، وهى تتحدث باللغة الأجنبية بين كل كلمة وأخرى، وتؤكد أنها عاشت فى الخارج عدة سنوات وأنها خبيرة فى الإتيكيت والبروتوكول والأناقة أكثر من غيرها من المصريات فى المجتمع، وهى ترتدى الثياب الفاخرة وتحمل الحقائب الموقعة من أشهر بيوت الموضة، وتغير باروكات الشعر كما يحلو لها، وفى رهان مع إحدى صديقاتها التى تقربت إليها بسبب علاقاتها الاجتماعية العديدة، أكدت لها أنها ستصبح صديقة لأشهر سيدات المجتمع فى خلال عدة أشهر، من خلال إمكاناتها المادية بمن فيهن أقرب صديقاتها.

إلا أن هذه الصديقة التى تنتمى للطبقة المتوسطة، والتى لها الكثير من الصداقات أكدت لها أنها لن تستطيع أن تأخذ منها صديقاتها المقربات منذ سنوات، لأنهن مجموعة متكاتفة وعلى محبة منذ أكثر من ٢٠ عامًا، وهكذا بدأت السيدة الثرية تحرص على حضور الحفلات الفنية، وتدعو سيدات المجتمع إلى أفخم الحفلات الخيرية، وتقدم الهدايا للسيدات الشهيرات ونجمات الفن، وتظهر بصحبتهن فى الصور وعلى مواقع التواصل الاجتماعى، وتحرص على حضور أعياد ميلادهن مع تقديم هدية فخمة فى يدها لصاحبة عيد الميلاد.

كما كانت تقيم المآدب للسيدات من صديقات صديقتها فى فيلتها الفاخرة مع تقديم عشاء فاخر، واستطاعت أن تدخل المجتمع شيئًا فشيئًا من خلال هذه الصديقة التى عرَّفتها بالكثير من السيدات دون أن تشك فى أى من تصرفاتها، وفعلًا حدث لها ما أرادت واستطاعت فى خلال عدة أشهر أن تكون فى وسط دائرة مشاهير المجتمع.

ثم حدث اللا متوقع، فقد أرادت أن تبعد صديقتها التى عرَّفتها بأشهر سيدات المجتمع وافتعلت مشادة معها، ثم أقامت حفلًا فى مطعم فاخر ودعت إليه ٣٠ سيدة مجتمع معروفات، ولم تدعُ صديقتها الأولى، التى تعرف أصلها وبداياتها قبل أن تتزوج الرجل الثرى الذى يكبرها، على زوجته، فقط لتصبح ثرية، ولتحقق حلمها فى أن تصبح سيدة مجتمع شهيرة تقدم التبرعات فى أشهر الحفلات الخيرية، وتظهر فى أشهر الحفلات الفنية وفى المناسبات الاجتماعية المهمة، مثل حفلات الزفاف والعزاء وتقدم الهدايا هنا وهناك للسيدات والفنانات ليساعدنها فى الوصول للشهرة.

واعتقدت صديقتها القديمة التى قدمتها للمجتمع بعد الثراء أنها ستدعوها وتؤكد على دعوتها، لأنها هى السبب فى دخولها إلى المجتمع الراقى، لكنها لم تفعل ذلك ولم تدعُها وافتعلت مشاجرة معها حتى تبعدها عنها، وحتى لا تظهر فى حفل عيد ميلادها، لأنها بكل بساطة أرادت أن تظهر بمفردها ودون انتظار صديقتها حتى لا يتذكر أحد ولا يفكر أحد أن يعرف بداياتها المتواضعة التى تعرفها صديقتها القديمة، والتى كان لها كل الفضل فى دخولها المجتمع. اعتقدت الصديقة القديمة أن صديقاتها لن يذهبن إلى دعوتها وحفلها حفاظًا على الصداقة التى بينهن منذ عشرين عامًا، والتى كانت تبدو وثيقة، إلا أن الصدمة التى تلقتها كانت شديدة، فلم تعتذر سوى صديقتين فقط للسيدة الثرية وذهبت ٢٨ سيدة من صديقاتها الأقرب دون اكتراث بغيابها وبعدم دعوتها، ولم يسألن عنها ولم يحاولن الاتصال بها.

وهكذا ظلت فى حالة صدمة، لأنها لم تفهم إلى أى مدى تغير المجتمع، وإلى أى مدى صارت العلاقات هشة وسطحية ووقتية، وأن صديقة الأمس قد تصبح عدوة الغد، وأن لغة المصالح قد أصبحت أهم من علاقة الصداقة.

وهكذا قررت الصديقة القديمة أن التباعد قد يكون أفضل، أحيانًا، ليدرك غيرك قيمتك وأهميتك ووقفاتك ومواقفك التى تتسم بالشهامة والعطاء السابقة معه، وحتى ترتاح أنت نفسيًا بالتباعد من هؤلاء الذين لا تهمهم الأخلاق ولا يعرفون القيم.

فالتباعد فى هذه الحالة أفضل أحيانًا، لتدرك الصديقات أنهن قد فقدن صديقة قديمة مخلصة، وأن الإخلاص فى الصداقة لا يمكن استبداله بأى مصلحة وقتية مهما كان بريقها، وهكذا قررت التباعد عن هذه المجموعة من الصديقات، اللاتى لا يعرفن معنى الصداقة الحقيقية، وأنها أثمن من أن يفقدنها فى مقابل حضور حفل فنى أو دعوة فى مطعم فاخر أو دعوة فى زفاف أحد المشاهير.

ومع شديد الأسف فإنه فى هذا الزمن أصبح من الضرورى أن نختار بعناية الصديقة المقربة، لأن مفهوم الصداقة المستديمة القائمة على المحبة والإخلاص والعطاء المتبادل والوفاء والإنسانية قد اختفى، وأصبحت الصداقة الحقيقية عملة نادرة فى زمننا إلا ما ندر، وحلت محلها أشكال أخرى من العلاقات الهشة وأنواع من علاقات المصالح أو الصداقة العصرية الوقتية التى لا تعرف الإخلاص أو المحبة أو العطاء أو الوفاء.