رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاستعراض الحوارى الخاوى

أصبحت التكنولوجيا لها الصدارة فى كل شىء، حيث إنها تحتل المركز الأول فى كل مناحى حياتنا، وهذا أمر لا غُبار عليه طالما أنه يسير فى المنحنى الصحيح والمنطقى، ويُحقق الهدف الحقيقى المُبتغى منه، فالإنسان لا بد أن يتطور، وأن يساير ويواكب متطلبات الحياة حتى لا يظل رابضًا فى مكانه، رغم أن الكل يتحرك وبسرعة البرق بجانبه، لكن هناك أمرًا أثار انتباهى بشدة فى الفترة الأخيرة، وهى أن المشاكل، والجدل، والسفسطائية، والتراشق اللفظى أصبحت لا تجد مكانًا يجمع شملها أكثر من مواقع التواصل الاجتماعى، والدردشة عبر برامج الإنترنت المختلفة، فلقد أثار فضولى بشدة أن هناك أشخاصًا تُخْتلق بينهم المشاكل التى ليس لها أساس، بسبب دردشتهم عبر السوشيال ميديا، وهذا الأمر تعايشته أكثر من مرة كمشاهدة فقط، لدرجة أننى شعرت وكأن هناك مشهدًا كوميديًا مكتوبًا بحرفية شديدة يُعرض أمامى.

فهناك مشادة كلامية حدثت عبر السوشيال ميديا أثارت انتباهى واستيائى فى آنٍ واحد، حيث إن هناك أحد الأشخاص الذى دَوَّنَ رأيًا مُتجردًا من وجهة نظره، وأخرى علقت عليه على أنه تلميح خاص بها، وآخر تدخل فى الحوار للدفاع عن وجهة نظر الشخص الأول، وغيره عَلّق لاستهجان رأى الثانى، وآخر دَوَّن عبارة استياء منهم جميعًا، فاضطر الأول أن يؤكد حسن نواياه، وأصرت الثانية على الرد على المُستاء بعبارة نقدية شديدة اللهجة، وحاول الثالث الظهور بمظهر المُصلح الاجتماعى المتجرد، وهكذا.. وهكذا.. ظلوا يرددون جميعًا العبارات بين النقد، والاستياء، والاستعراض، والاستهجان، حتى تحول النقاش إلى حلبة مصارعة، كل شخص فيها يحاول استعراض عضلاته الحوارية وإظهار الآخر إما بمظهر الجاهل، أو الشيطان، أو الكاذب، أو المنافق، وغيرها من الصفات البذيئة التى تؤكد أن هؤلاء لم يكن يجمعهم أى مشاعر طيبة فى أحد الأيام من قبل، والغريب أن الحوار قد تطور إلى مرحلة التعالى الطبقى، واستعراض تاريخ العائلات، لدرجة تُشعر القارئ لذلك الحوار بأنه أمام شجار فى الشارع، أو فى السوق، والفارق الوحيد أن المتحاورين- إن صح التعبير- المتشاجرين يتعمدون استخدام أرقى العبارات والمصطلحات ليس بهدف الارتقاء بالكلمات والحوار لا سمح الله، وإنما بهدف استعراض قوة الألفاظ التعبيرية، وللتأكيد على رُقى الشخصية، وأنها سليلة عائلة عريقة لها أمجاد عظيمة.

والمضحك أننى حاولت الرجوع إلى بداية الدردشة فوجدت أن السبب مجرد عبارة مبهمة لا تدل على شىء، ولا ترمى إلى أمر معين، ولا تخص شخصًا بعينه، ولا تنال من أحد الشخصيات المهمة، فالأمر كله لا يعدو سوى سفسطة حوارية، بُغْية لفت الأنظار والانتباه، ولكن الأمر تطور إلى مشاجرة ونزاع بين أطراف لا صلة لها بالأمر برُمته.

والسؤال الآن: هل هذا كان هو الهدف من دخول التكنولوجيا حياتنا الشخصية؟! وهل انتهت الخلافات الشخصية والمنازعات القضائية حتى بتنا نبحث عن مشاجرات إلكترونية؟ وهل نجحنا فى تحقيق كل أهدافنا، وترتيب أولوياتنا، والانتهاء من التزاماتنا حتى تبقى لنا من الوقت ما يكفى للمشاجرة عبر الإنترنت؟! أعتذر عن تدوينى فى بداية العبارة السابقة كلمة «والسؤال»، حيث إننى دونت أكثر من سؤال، بسبب كثرة الأسئلة التى فرضت نفسها على أفكارى بشكل تلقائى، فهذه الأسئلة ليست فى حاجة إلى أجوبة، لأنها أسئلة استنكارية فى الأساس، لأننى عايشت هذا الموقف عدة مرات بحكم اضطرارى للانضمام إلى أكثر من جروب على السوشيال ميديا، وتيقنت أن الهدف الرئيسى من إنشاء كل تلك المجموعات هو مضيعة الوقت، واستعراض القُوى الحوارية فى أمور لا تمت للأهمية بصلة، والمثير للانتباه أن أكثر شىء إيجابى وجدته يحدث فى أغلب تلك المجموعات هو نشر النكت المضحكة، أما ما دون ذلك فهو يُدرج تحت قائمة السلبيات بلا نقاش أو جدال.

فيا ليتنا ندرك أن ما نفعله هو جريمة دون أدنى شك، فنحن نشوه المعنى النبيل الذى من أجله تطورت التكنولوجيا، فما نفعله هو تفريغ للتكنولوجيا من فحواها، وتدمير للمعانى الإنسانية النبيلة، ومضيعة للوقت، وتخريب للعلاقات السامية بُغية الاستعراض والتسلية، والأهم من هذا وذاك هو إفراغ العقل من المخزون الفكرى الإيجابى، وشحذه بالترهات الفكرية السخيفة، فما أصعب أن يستثمر العقل كل إمكانياته فى الاستعراض الحوارى الخاوى، الذى لا يُسْمن ولا يُغنى من جوع.. فمما لا شك فيه أن ما يحدث هو إهدار للطاقة البشرية التى نحتاج إليها لبناء المجتمع، ولو استمر هذا السلوك غير المُجْدى فهذا سيؤثر بشكل حقيقى على الأداء العام للإنسان بصفة خاصة، وعلى المجتمع والدولة بصفة عامة، لأننا فى أمسّ الحاجة لاستغلال كل لحظة فى حياتنا لبناء دولتنا ومجتمعنا.