رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثيودوراكيس.. الفنان والموقف

 

من المألوف لنا أن يكون لمعظم الأدباء موقف سياسى وفلسفى يعبرون عنه مباشرة من خلال المقالات والحركات السياسية أو من خلال إبداعهم الأدبى، لكننا لم نر ذلك إلا نادرًا فى تاريخ الموسيقى، إلا أن الموسيقار اليونانى العالمى ميكيس ثيودوراكيس «١٩٢٥- ٢٠٢١» الذى فارقنا الخميس ٢ سبتمبر الحالى، أكد أنه من الضرورى للفنان، أيًا كان مجال إبداعه، أن يبرز موقفه من القضايا الكبرى.

يعرف الجميع تقريبًا ثيودوراكيس من موسيقاه التى وضعها لفيلم «زوربا» عام ١٩٦٤، وفيلم «زد» ١٩٧٠، وربما من مئات المقطوعات الموسيقية الأخرى علاوة على أعماله الأوبرالية.

عشق ثيودوراكيس الموسيقى منذ نعومة أظفاره، ووضع أول ألحانه وهو فى الثانية عشرة من عمره، وشاهد فى شبابه المبكر الاحتلال النازى يغزو بلاده فى الحرب العالمية الثانية، فانضم وهو فى السابعة عشرة إلى المقاومة الشعبية وسجن من جراء ذلك، ومع اندحار الفاشية وانكسارها تفرغ ثيودوراكيس للإبداع الموسيقى عام ١٩٥٠، وكان يمكن له أن يكتفى بتاريخه الوطنى المشرف ويعكف على الإبداع، لكنه ما إن قام فى اليونان نظام حكم عسكرى ما بين ١٩٦٧- ١٩٧٤ حتى نهض ثيودوراكيس للمقاومة من جديد، وتم اعتقاله ووضعه تحت الإقامة الجبرية، لكن شهرته العالمية أجبرت الحكم على إطلاق سراحه والاكتفاء بنفيه إلى فرنسا!

وفى باريس تزعم الموسيقار العظيم الجبهة الوطنية ضد الحكم العسكرى فى بلاده، وتعرف هناك إلى الشاعر الكبير بابلو نيرودا، فأصبحا صديقين يقومان معًا بجولات موسيقية وشعرية لأجل حرية اليونان.

وفى اليوم الذى سقط فيه الحكم العسكرى فى اليونان عام ١٩٧٤، أُذيعت على الفور ليل نهار أغنيته «ستة أقمار» تعلن النصر بالأنغام، ووصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بقولها: «حارب بالموسيقى والكلمات ضد الديكتاتورية».

وبعودة الديمقراطية رجع ثيودوراكيس إلى اليونان، وأصبح وزيرًا، ثم تخلى بمحض إرادته عن المنصب لصالح الفن، وظل فى صفوف المعارضة منددًا بسياسة التقشف التى دعت إليها الحكومة وبكل نقيصة يراها فى أداء الحكم.

لم يخمد صوته ولا أنغامه لحظة، عام ١٩٨٢ خلال الحصار الإسرائيلى لبيروت شد الموسيقى العظيم رحاله إلى لبنان واخترق الحصار، وقاد الأوركسترا عازفًا الأناشيد الوطنية مؤججًا روح المقاومة والتحدى فى مواجهة الحصار، وخلال ذلك وصف الكيان الصهيونى بأنه «بذرة الشر فى العالم»، فلاحقته تهمة العداء للسامية الجاهزة للجميع، فلم يفزع وصار يظهر فى العديد من حفلاته بالكوفية الفلسطينية، بل قام بتوزيع موسيقى للنشيد الوطنى الفلسطينى.

عارض بقوة العدوان على العراق والغزو عام ٢٠٠٣ وندد بأعلى صوت بموقف حكومة اليونان الموالى لجورج بوش، وفى خضم تلك الحياة العريضة من الفن والمقاومة والموقف ترك ثيودوراكيس كتابًا بعنوان «يوميات المقاومة» قال فيه: «لديهم الدبابات.. وأنا لدىّ الأغنيات.. لم يخترع أحد بعد دبابة تستطيع أن تقتل الأغنية».

وداعًا ثيودوراكيس ويبقى اسمك طائرًا محلقًا على إيقاع أغنياتك العذبة.