رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإنس والنمس.. نظام التفاهة نموذجًا

 

شاهدت فيلم الإنس والنمس، أثناء عطلة الأسبوع الماضى، وعند اختيار الفيلم الذى سنشاهده، لم أفكر فى اختياره، فقد بدا لى اسم الفيلم «تافهًا»، وتحديدًا كلمة النمس التى تحمل فى ذهنى دلالات سلبية، لكنى قررت خوض التجربة، وتمنيت أن يكون حدسى مخطئًا.

بعد المقدمة التى اعتبرتها لطيفة، وقد لجأ فيها المخرج إلى كسر الإيهام بحديث الشخصية الرئيسية إلى الجمهور الموجود أمام شاشات العرض، لم أجد فيما شاهدت سوى ما ملأ نفسى بالحزن على إهدار الوقت والمال فى هذه التفاهة.. وبعد انتهاء عرض الفيلم بدأت فى التعرف على رؤية صناع الفيلم، فلم أجد إلا الفرح والحبور والتعبير عن السعادة للمشاركة فى هذه التجربة المتميزة، وزاد من نكدى مشاهدة مخرج العمل، وهو يعبر عن اعتزازه بالتجربة، التى يراها مختلفة ونقلة فى عالم الكوميديا.

فى تلك اللحظات شعرت بأننى فى كابوس، والموجع أننى لم أكن نائمة كى أفر وأهرب منه، استجمعت نفسى وتذكرت كتاب «نظام التفاهة» لعالم الاجتماع الكندى «آلان دونو» (١٩٧٠)، الصادر عام ٢٠١٥، ترجمة د. مشاعل عبدالعزيز الهاجرى.

وبالربط بين ماء جاء فى الكتاب، حول أننا نمر اليوم فى مرحلة تاريخية لا مثيل لها، تسود فيها سيطرة التافهين، على محاور الدولة الحديثة كلها. ولنظام التفاهة هذا رموز تافهة ولغة تافهة وشخصيات وأدوات تافهة، وسر نجاح هذا النظام يكمن فى قدرته على إيهام الأفراد بكونهم أحرارًا وكونهم ثوريين.

إن ما شاهدته على الشاشة لم يكن فطريًا أو بدائيًا يحمل روح الطزاجة والتجريب، لكنه حالة مسيطرة بأدوات دعائية نجح صناع الفيلم فى تمريرها من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، وقد استخدم الممثل الرئيسى فى الفيلم صفحته لتوجيه المتابعين له لمشاهدة الفيلم وعدَّد سبعة أسباب تجعل المشاهدين يختارون مشاهدة الفيلم، جميعها يتعلق بحالة التسلية والفشار والجو العام الذى تخلقه حالة التبسيط المخل بالقواعد والمعايير.

إن استغلال مواقع التواصل للدعاية للفيلم يعكس ذكاء صناع الفيلم، وأنهم ليسوا فاقدى الوعى، إنما هم جزء من النظام الكبير، الذى يبتلع كل قيمة، ومعنى ويجعل من الاستسهال والتراخى الجمعى هدفًا ونتيجة، فالشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل «مثل تويتر وفيسبوك وإنستجرام»، هى مجرد مواقع للقاء الافتراضى وتبادل الآراء؛ منتديات لا أكثر، فيها يتكون «عقل جمعى» من خلال المنشورات المتتابعة.

هذا الفكر التراكمى السريع الذى يبلور- بسرعة وبدقة- موضوعًا محددًا، نجح فى اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالًا من التفاعل «المناظرات والخطابات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد».

ورغم كل هذه الفرص، فقد نجحت هذه المواقع فى «ترميز التافهين»، كما يُقال، أى تحويلهم إلى رموز، ما يجعل كثيرًا من تافهى مشاهير السوشيال ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر «النجاح»، هو أمر يُسأل عنه المجتمع نفسه، الذى دأب على التقليص التدريجى لصور النجاح التى تعرفها البشرية ككل «العمل الجاد والخير للأهل والمواطنة الصالحة وحسن الخلق والأكاديميا والآداب والفنون والرياضة.. إلخ»، فألغاها جميعًا من قائمة معايير النجاح، حتى اختزلها فى المال فقط، ويعكس سلوك صناع الفيلم مظهرًا من مظاهر نظام التفاهة، بل إن الكاتب يصفهم بأنهم إحدى أدوات نظام التفاهة، فهم من المشاهير والأثرياء، الذين ينبرون إلى الدفاع عمَّا يسببه الواقع المتردى من كوارث مدمّرة، أما الفنان الحقيقى فيختفى، إذ إن المطلوب هو فن بلاستيكى يُنتج سلعًا فنيةً لا تعكس سوى صورة التفاهة الثقافية.

وتحقيق فيلم «الإنس والنمس» أعلى الإيرادات، فى شباك تذاكر هذا الموسم، يؤكد ما يذهب إليه الكتاب من أن الفوز فى اللعبة أو نظام التفاهة، لا يتطلّب سوى التظاهر بالعمل، تكفى النتيجة الظاهرية، مجرد الإمكانية لتبرير الوقت المنقضى، أما التحقق من النتائج وتقييمها فهو يتم من قبل أشخاص متورطين فى هذا التظاهر، مرتبطين به، وذوى مصلحة فى استمراره.

لقد فقدت الحرفة والصنعة، الخبرة.. كل هذه المسميات معناها، يمكن للناس، الآن، إنتاج الوجبات على خطوط الإنتاج دون أن تكون لهم معرفة بالطبخ فى البيت؛ إعطاء تعليمات على الهاتف للعملاء، رغم أنهم هم أنفسهم لا يفهمونها؛ بيع كتب أو صُحفٍ هم أصلًا لا يقرأونها، إن الفخر بالعمل المُنتَج جيدًا صار أمرًا فى طور الاضمحلال»،

لا أحد يستطيع أن ينكر أن المشاهير والفاشينستات قد حققوا «النجاح» فعلًا، وفقًا لمعيار المال، ولكن معيار القيمة فعليه السلام.

هل أبالغ؟ 

هل أنا نكدية؟

ربما، لكن الأكيد أن ما سبق يحمل الكثير من مؤشرات الخطر.