رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

داعش خراسان.. اللاعب القادم لإشعال أفغانستان وما حولها

 

لم يكن غريبًا أن يتبنى تنظيم «داعش» ولاية خراسان تفجير مطار كابول الذى وقع الخميس الماضى، باعتباره المكون المسلح الأبرز الذى يناصب كلًا من «طالبان» والولايات المتحدة العداء قولًا وفعلًا؛ ليسجل هذا الهجوم الإرهابى باعتباره من كبرى العمليات التى تعرضت لها القوات الأمريكية على مدار ٢٠ عامًا قضتها على هذه الأرض ذات الرمال المتفجرة.

بلغت الحصيلة ١٣ قتيلًا من قوات المارينز الأمريكية التى كانت تعلم قبلها بيومين على الأقل أن هناك عملًا إرهابيًا وشيكًا سيستهدف المطار، لكن تموضع القوات وتدافع الأحداث وضعا إجراءات الحماية الاحترازية لهذه القوات وظهرها إلى الحائط، فقد وجدت نفسها أمام معضلة شائكة تتعلق بضرورة الحفاظ على منطقة وجود الطائرات الأمريكية فى درجة أمان لا تسمح بنفاذ أى عنصر مهدد قد يصل إليها على المدرج المفتوح، حيث التدافع البشرى ومستوى الفوضى غير المسبوق.

لهذا اضطرت قوة تأمين المطار إلى التمسك بمواقعها رغم ارتفاع فرضية التهديد، فالسيناريو البديل لا يحتمله مجمل المشهد الأمريكى الأفغانى الذى باتت المجازفة فيه أقرب الطرق من أى احتمال آخر.

تنظيم ولاية خراسان لم يكن يعوزه أكثر من مكونات هذه الساحة المرتبكة، كى يتقدم ويخترق صفوف الجموع لينتقى أفضل نقطة اقتراب من تجمع للقوات الأمريكية، ومن ثم يفجر الانتحارى «عبدالرحمن اللوغرى» نفسه ليحصد هذا العدد الباهظ.

عادة عناصر الاستكشاف تكون قد وطأت أرض تنفيذ العملية مرات قبل أيام من التنفيذ، كى تدرس على الطبيعة كل الاحتمالات، لتعد لها ما يلزمها من ترتيبات عملياتية تمكنها من تنفيذ مهمتها.. الواضح فى تلك العملية أن الأمر لم يستغرق وقتًا طويلًا أمام هؤلاء، فاستكشاف سريع لمسارات الازدحام الفوضوى الخانق فى الشوارع المؤدية إلى نقاط التفتيش يمثل بيئة نموذجية تسمح بالاقتراب اللصيق الذى يفضى من خلفه إلى ساحات مبنى المطار، واحتاج التكتيك الخططى فقط إلى «فعل إشغال» وصرف جزئى لانتباه قوات الإسناد كى لا تكون حاضرة الجاهزية، وهذا ما نفذته عناصر التنظيم فى التفجير الثانوى الذى جرى أمام فندق «البارون» القريب من مسرح العملية، وكان كفيلًا بالفعل بتحقيق المرجو منه، حيث هرعت إليه عناصر طالبان بمجرد سماع دويه، لينفتح الطريق أمام عنصر التنفيذ الانتحارى كى يصل إلى أحضان القوات الأمريكية مباشرة. 

وثيقة الدم التى وقعها التنظيم فى هذه العملية بهذا التنفيذ السلس تشى بأنه مُلم بشكل كافٍ بمكونات المشهد الذى يستهدفه، فهو ليس غريبًا عن هذه الأرض بل يتحرك باعتباره مالكًا أصيلًا قادرًا على إنفاذ رسائله دون تعجل، ووفق رسائل محددة لم تخطئها العيون التى انطفأت فقط بقدر الجسامة وحدها. فـ«ولاية خراسان» سجلت حضورها الأول فى أفغانستان عام ٢٠١٥، عندما عُين «حافظ سعيد خان» أميرًا للتنظيم على الولاية الداعشية الوليدة حينذاك، بعد أن قبل أبوبكر البغدادى البيعة من المجموعات المحلية التى اتحدت تحت تلك الراية، استعدادًا للتمدد فى أفغانستان وباكستان والهند وبنجلاديش وسيرلانكا وأوزبكستان وطاجيكستان، فضلًا عن أجزاء من إيران حسب انتمائها لمصطلح «خراسان» الذى يضم هذه المنطقة الشاسعة، حسب «أبى محمد العدنانى» المتحدث باسم القيادة المركزية للتنظيم الذى وصف هذا التدشين بالفتح المبين، وبدأت أولى هجمات الولاية الجديدة فى إبريل من ذلك العام، وقت أن كان التنظيم الأم يتربع على عرش «الإرهاب الدولى» فيما سمى لاحقًا بأعوام الذروة «٢٠١٥، ٢٠١٦، ٢٠١٧»، هذه الولاية التى تتبع تنظيم «داعش» أيديولوجيًا وتنظيميًا خُطط لها منذ البداية أن تمثل موطئ قدم كبيرة فى آسيا الوسطى، وتطورت المهمة لاحقًا بعد انهيار مركز «الخلافة» فى سوريا والعراق ليمثل الفرع الخرسانى قوات المقدمة؛ من أجل تأسيس ساحة بديلة للانحسار المكانى الذى تجسد بمقتل أبوبكر البغدادى.

التقديرات الأمنية لأجهزة الاستخبارات التى عملت فى أفغانستان خلال تلك الأعوام، حددت القوة البشرية المؤكدة والمستقرة داخل صفوفها ما بين ١٥٠٠ و٢٢٠٠ مقاتل من أصحاب الجنسية الأفغانية وحدها، ورغم تكبدها خسائر كبيرة بين عامى ٢٠١٥ و٢٠٢٠ جراء ملاحقة القوات الأمريكية لها، عبر العمل الاستخباراتى الذى صاحبه قصف جوى مركز على المناطق التى تتمكن الولاية من الاستقرار فيها، ولعل أشهر هذه الهجمات عندما قام سلاح الجو فى أبريل ٢٠١٧ بقصف مجمع كهوف شرق أفغانستان، بأكبر قنبلة تقليدية فى الترسانة الأمريكية «٢٠ ألف رطل» ليصيب الملاذ الأكبر للولاية بخسائر فادحة فى صفوف القيادات والمقاتلين.

ورغم اعتبار عام ٢٠٢٠ هو الأسوأ فى تضييق المساحات أمام التنظيم، بعد أن دخلت «طالبان» على خط المواجهات، بعدما بدأت تنسق بشكل كبير مع القوات الأمريكية، إلا أن الولاية الداعشية تمكنت خلال الشهور الماضية، من تعويض خسائرها بعمليات ضم واسعة لعناصر انتمت سابقًا لـ«شبكة حقانى» الذراع القتالية القوية لحركة «طالبان»، فضلًا عن مجموعات من «عسكر طيبة» و«جماعة الدعوة» من باكستان والحركة الإسلامية فى أوزبكستان. 

هناك إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة نسبت لـ«ولاية خراسان» قيامها بتنفيذ ٧٧ هجومًا خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام ٢٠٢١ وحده، وهناك أخرى وفق الإصدار الإعلامى للتنظيم «النبأ، أعماق» ذكرت أن عملية مطار كابول تعد الهجوم الـ٩٦ فى غضون الثلاثة أشهر الأخيرة، وقد أكدت عناصر «طالبان» هذا الإحصاء الداعشى باعتباره أقرب للصحة بالفعل ما بين هجمات متوسطة وكبيرة.. اللافت أن ٨٠٪ من العدد الذى ذكرته ولاية خراسان كان موجهًا ضد «طالبان» بالخصوص، حيث تعتبرها الولاية فى حكم «المرتدين»، هكذا تصفهم صراحة فى كل إصداراتها، للحد الذى نَدد فيه التنظيم باستيلاء طالبان على أفغانستان مؤخرًا، لذلك فمن مصلحة الولاية حاليًا شن هجمات تثير الفوضى فى البلاد بعد سيطرة الحركة لإحراجها وزعزعة مكانتها الداخلية، بل ومهاجمة «الشرعية الدينية» لطالبان على الأرض، فالخلاف العقائدى العميق يكشف التباين الكبير بين المشروع الطالبانى، الذى يظل محكومًا بالصبغة الوطنية القومية التى تهدف إلى إنهاء الاحتلال، وإقامة نظام حكم إسلامى محلى، وبين ما تنتهجه ولاية خراسان فيما يعرف بـ«الأممية الجهادية» التى لا تعترف بالقومية أو الحدود. ووفق تلك المفاهيم تنشط ماكينات التجنيد التابعة لداعش، من أجل ضم أكبر قدر من الأعضاء الأكثر تطرفًا فى صفوف طالبان أو غيرهم من المسلحين الذين يشعرون بـ«التهميش». 

ولاية خراسان اللاعب القديم الجديد على الأراضى الأفغانية، مرجح لها وفق المعطيات المتوافرة حتى الآن على الأقل، أنها تراهن على استعادة فترة «العمليات المروعة» الأولى التى صاحبت تأسيس الولاية وظهورها على الأراضى الأفغانية. فمنذ بداية انطلاقها كعادة التنظيمات الإرهابية اعتبرت طالبان عدوًا رئيسيًا لها، خاصة أن العديد من مؤسسى الولاية وقادتها من المنشقين عن حركة «طالبان الباكستانية»، فسرعان ما انخرطوا فى مواجهات مع حركة طالبان أفغانستان للسيطرة على مناطق رئيسية على الحدود مع باكستان مرتبطة بتهريب المخدرات وسلع أخرى، ومن ثم سريعًا انتقلت لتنفيذ سلسلة من التفجيرات الانتحارية فى كابول العاصمة ومدن أخرى، ضد الحكومة وأهداف عسكرية أجنبية سعيًا منها لترسيخ صورتها كحركة أشد عنفًا وتطرفًا من منافسيها الطالبيين، ولتحقيق هذا الهدف تنوعت هجمات «ولاية خراسان» ما بين عمليات إعدام بشعة لوجهاء القرى والقبائل، وقتل موظفى الصليب الأحمر والعاملين بمجال الإغاثة، والأشهر منها بالتأكيد الهجوم الذى نفذته فى أغسطس ٢٠٢٠ باقتحام «سجن جلال آباد» المركزى بولاية ننجرهار، حيث تمكنت من خلاله إطلاق سراح المئات من القيادات والمقاتلين التابعين للولاية. فضلًا عن شن هجمات انتحارية وسط الحشود فى المناسبات، بما فى ذلك تنفيذ سلسلة العمليات الدموية ضد أهداف مرتبطة بالمنتمين إلى المذهب الشيعى. 

المعلومات الاستخباراتية حددت جنسيات المنتمين لولاية خراسان، بأنها تضم باكستانيين من جماعات متشددة سابقة ومتطرفين أوزبك إضافة إلى الأفغان، فى بادئ الأمر قاموا بالسيطرة على عدد محدود من المناطق الحدودية مع باكستان، قبل أن ينجحوا فى فتح جبهة ثانية رئيسية فى الأقاليم الشمالية بما فى ذلك مناطق «جاوزجان، وفارياب»، ومنها إلى شمال شرق أفغانستان لا سيما مقاطعات «قندوز، وكونار، وننجرهار، ونورستان»، ومع القيادة الجديدة للولاية «أسد الله أوراكزى» المُكنى بـ«أسد الله المهاجر» الذى يتمتع بمهارات تنظيمية استثانية، فضلًا عن خبرات عسكرية وأمنية طويلة منذ الإعلان عن تأسيس الولاية، ما مكنها من التكيف والصمود فى وجه الضربات التى تعرضت لها، كما نجح فى إعادة بناء شبكاته القتالية فى فترة زمنية وجيزة ولافتة، يصبح المشهد المقبل مفتوحًا على العديد من احتمالات تدشين فصل جديد من الاقتتال البينى بينه وبين «طالبان»، خاصة مع فقدان الأخيرة للدعم الأمريكى الذى ظل لسنوات يمثل عامل الترجيح للحركة فى مواجهة «داعش»، اليوم الولاية تطمح أن يكون نطاقها الحيوى بأفغانستان مركزًا بديلًا تستعيد على أراضيه حلم الخلافة المفقود، خاصة أن كل معطيات الداخل الأفغانى وجوارها الإقليمى يجعل هذا الحلم الآن مشروعًا أكثر من أى وقت مضى.