رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عودة للصحافة الطبية


 

أزعم أننى تلقيت قدرًا لا بأس به من المعارف الصحية والطبية فى فترة تعليم الثانوى فى السبعينيات وقت أن كانت القراءة هى المتاح الأوحد قبل التواصل الإلكترونى، ويتذكر معى الكثيرون من أبناء الجيل كيف شاركت الصحافة العربية والمحلية فى تأصيل المعارف الطبية عبر مجلتى «طبيبك»، و«طبيبك الخاص»، وأعمدة الصحف اليومية والبرامج الإذاعية مثل: خمسة لصحتك أيقونة الإعلام الصحى الإذاعى وغيرها.
ليكن حديثنا فى هذا العدد حول تصحيح المفاهيم الخاطئة فى ثقافة الصحة والطب، ولنبدأ بالتحذير من عبارات أتلفت أكباد وكلى المصريين مثل عبارة غسيل الكبد، تطهير الكبد، تخليص الكبد من السموم، غسيل الكلى، غسيل الرئة، تنظيف الرئة، إلى آخره من المسميات الخادعة والتى لا يعترف بها الطب، ولن تجد لها مرادفًا فى اللغة الإنجليزية.
سأبدأ هنا بعبارة «غسيل الكلى» كإجراء شائع، لأننا فى الحقيقة لا نغسل الكلى وإنما نغسل الدم بسبب تعطل الكلى الحية، لذلك تجد أن الاصطلاح الطبى «بالإنجليزية» يحترم توصيل المعنى، فهو يخبرك بأن الإجراء عبارة عن تنقية الدم وليس غسيل الكلى، فالكلى لا تُغسل.
وبالمثل، لا يعرف الطب غسيل الكبد ولا تطهير الكبد ولا هناك غسيل للرئة ولا تنظيف ولا تطهير.
لفظ «الغسيل» يتاجر به أدعياء الطب وتجار الأعشاب وهى عبارة لها وقع طيب على النفس، فليس هناك أفضل من «غسيل» أى شىء، حبذا لو قصد منه إزالة المرض، وفى المجمل لا يعرف الطب دواءً ينقى الدم أو «يروق عكاره» أو ينظفه كما يتغنى أدعياء الطب.
لتعلم أيضًا أن الفيتامينات والمعادن لا تقوى الجسم ولا تزيد الوزن، وتكمن الإشكالية فى عدم فهم المقصود بمصطلح «الصحة»، وهو ببساطة عكس مفهوم الاعتلال «المرض». ويحدث المرض لدى نقص الفيتامينات والمعادن أو زيادتها أحيانًا، لأنها مركبات محفزة للتمثيل الغذائى والتخليق البيولوجى والكيميائى داخل الجسم.
إذن، لا فائدة تضاف لك عند تجرع الفيتامينات أو المعادن فى حال عدم وجود نقص منها بالجسم، بل تؤدى الزيادة أو الإفراط إلى عواقب وخيمة تصل إلى حد التسمم مثل التسمم بفيتامين أ، د.  
الفيتامينات لا تمنح الجسم طاقة ولا سعرات حرارية، وكذلك المعادن، لذلك لا يلزمك الاحتفاظ برصيد عالٍ من أى مكون غذائى فى الجسم.
وفى ذات السياق المغلوط لا يوجد فى الجسم دم فاسد ولا دم صالح وليس هناك سوى الدم الشريانى والدم الوريدى، أما ما يتاجر به الحجامون فهو كذب وافتراء ولا يمت بصلة للطب، كما أن الصفد لا يشفى أى مرض بل ينطوى على خطورة نقل العدوى الفيروسية.
ليس صحيحًا أن الإقلاع عن التدخين يلحقك بصفوف الآمنين من سرطان الفم أو الحنجرة أو الرئة أو المثانة البولية بعد الإقلاع عن التدخين فى اليوم التالى أو بعد أسبوع أو شهر أو سنة أو حتى عشر سنوات.
يجب أن تفرق بين ضرر التدخين وخطورة التدخين، فالضرر وصف يتضمن الآثار بعيدة المدى مثل التسرطن وتكيس الرئة، أما الخطورة فهى مزاحمة أكاسيد الكربون للأكسجين عند الخلايا أو التسمم الحاد بالنيكوتين جراء تناول جرعات عالية من التبغ تتراوح بين تنبيه العقد العصبية فى الجرعات القليلة وتثبيطها فى الجرعات العالية بما يؤدى لخلل فى التوصيل الكهربى للقلب والعضلات والمخ.
إذن الإقلاع عن التدخين سوف يمنحك فرصة الاحتمالية الأقل للتسرطن أو الحد من استفحال التكيس الهوائى بالرئة، ولكن لن تنعدم تلك الاحتمالية بعد الإقلاع لأن التسرطن بدأ مع الأنفاس الأولى للمدخن، وهى عملية تحول تبدأ بتهيج الخلايا المعرضة للقطران الذى يحتوى على 4000 مركب مسرطن ومعه تبدأ الخلية بالدفاع عن نفسها بإحداث بعض الانحراف فى النمو وهو التحول السرطانى.
لا توجد دراسات علمية تفيد بأن تدخين سيجارة ينقص العمر خمس دقائق، أو أن الشيشة أقل خطرًا لأن القطران مغسول، أو أن حجر المعسل يوازى 20 سيجارة، ولكن المؤكد هو الضرر مع كل نفس.
لاحظ أن ضرر التدخين بات مرهونًا بأقدمية التدخين عوضًا عن شراهة التدخين بمعنى أن الخطر الكامن فى تدخين سيجارتين يوميًا لمدة ثلاثين عامًا قد يكون أخطر من تدخين عشرين سيجارة يوميًا لمدة عام.
وفى النهاية، إياك أن تظن أن أيًا من الأطعمة مثل البروكلى أو الأسماك أو الفاكهة يمكن أن يعادل أو يبطل عملية التسرطن الناشئ عن التدخين. بالطبع، هذا لا يعنى انتفاء الفائدة من وقف التدخين.
فى هذا الحديث أود التأكيد أن التدخين الإلكترونى له نفس مخاطر التدخين التقليدى، كما أن إضافة النكهات على معسل الشيشة يضاعف المخاطر لأن مكسبات النكهة بداية من احتراق الجلسرين مرورًا بالزيوت الطيارة العضوية وانتهاءً بمحتويات الفحم كلها تزيد الطين بلة.
من هنا أجدد الدعوة لكل المنابر الصحفية والإعلامية لفرد مساحة أوسع للتثقيف الصحى، وهو الدور الغائب فى صحافة وإعلام العصر بعدما كانت صحافة مصر ومن بعدها صحافة لبنان تقدمان من المجلات والإصدارات الصحية ما يكفى لحماية الناس من المفاهيم المغلوطة مثل ظاهرة الحديث عن فوائد الكركمين، وما هو إلا الكركم العادى الذى نستخدمه فى المخبوزات، ولكن النصح بإدراجه كدواء له مفعول السحر يعالج عشرات الأمراض فهو مهلكة لأكباد وكلاوى المصريين، وسوف نتناول أطروحات مماثلة فى الأعداد المقبلة.