رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثانوية العامة

 فى كل عام تعيش مئات الآلاف من البيوت المصرية كابوسًا ثقيلًا بسبب نظام الثانوية العامة فى بلدنا، ويعانى مئات الآلاف من التلاميذ والتلميذات الخوف من هذا الشبح الذى يسكن بداخل نفوسهم طوال العام الدراسى، فيصيبهم بالاكتئاب من المذاكرة المكثفة والرعب من امتحان نهاية العام، الذى يحدد المجموع الذى على أساسه يتحدد مصيرهم بعد ذلك ومسار حياتهم فى مستقبل الدراسة فى الجامعة أو المعهد.
ومما يزيد حالة التوتر والخوف لدى الطلبة والطالبات الضغوط النفسية التى يمارسها كثير من أولياء الأمور على أبنائهم من أجل الحصول على مجموع كبير يؤهلهم لدخول الجامعات، وخاصة كليات القمة.. وبعض الآباء تراودهم أحلام بتفوق أبنائهم حيث يعانون هم أيضًا من كابوس المجموع وما ظل يتردد طوال عدة عقود من عبارات عديدة مثل «كليات القمة»، مما جعل الآباء يحثون أبناءهم وبناتهم على خوض السباق المحموم لدخول كليات القمة مثل الطب والهندسة، والصيدلة لشعبة العلمى علوم، والرياضيات، وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لشعبه الأدبى.. وهكذا يجد التلميذ نفسه فى حالة قلق وتوتر طوال فترة المرحلة الثانوية أملًا فى إرضاء الآباء بدخول إحدى كليات القمة، وألا يكون الطالب فاشلًا، وهى فى تقديرى مفاهيم خاطئة تم تداولها طوال عدة عقود وبقيت مستمرة حتى الآن، فوجدنا سباقًا محمومًا بين الطلبة وتكالبًا لدخول هذه الكليات، وكأن النجاح فى الحياة وفى المجتمع لا يكون إلا إذا التحق الطالب بكلية الطب أو الهندسة أو الصيدلة أو كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهى كليات محترمة بلا شك وتُخرج مهنًا نبيلة وذات فائدة للمجتمع. 
ولكن أيضًا هناك حاجة لأن يحدث تغيير فى وعى المجتمع بأن هناك مهنًا محترمة ونبيلة ذات فائدة كبيرة للمجتمع وذات أهمية لاستقرار وتقدم المجتمع، مثل مهنة ضابط الجيش وضابط الشرطة ورجل الأعمال والمدرس وأستاذ الجامعة وموظف البنك، وهناك مجالات حيوية مهمة للبلد، مثل العمل فى مجال الخارجية والسياحة والآثار والإعلام والأدب والثقافة والصحافة والفنون بكل أنواعها، مثل التصوير والتمثيل والسيناريو والفن التشكيلى، والترجمة وتصميم الأزياء والميكانيكا والطيران والتمريض والمحاماة والصناعة والطباعة والدعاية والتسويق والبرمجة وغيرها مما لا تتسع له المساحة هنا. 
إنها مهن وتخصصات حيوية وضرورية، ولا غنى عنها لأى مجتمع، لهذا وجب أيضًا تغيير تلك المفاهيم القديمة وإحلال مفاهيم حديثة وعصرية بدلًا منها، مع ظهور تخصصات جديدة فى كل المجالات، ولا بد من رفع درجة وعى المجتمع بها، والاهتمام بإلقاء الضوء عليها باعتبارها مهنًا لا بد أن تحظى بالاحترام والتقدير فى السلم الاجتماعى، وأن تصبح فى أجندة أحلام الطلاب لدى تحديد مسارات مستقبلهم الجامعى، وبحيث لا يقتصر الأمر على ما كان يحدث فى العقود الماضية من أن التفوق يكون فقط بدخول كلية الطب أو الهندسة أو الصيدلة أو الاقتصاد والعلوم السياسية.
ورغم أننا كنا نأمل ونطالب بتغيير نظام المجموع الذى يعانى منه طلبة الثانوية العامة وأولياء الأمور إلا أننا هذا العام، ورغم أملنا فى تغيير النظام، ومع وجود فيروس كورونا الذى غيَّر نظام الدراسة بالاعتماد على التلميذ والاضطرار إلى مذاكرة التلاميذ فى بيوتهم معظم العام الدراسى- إلا أن شبح الثانوية العامة ظل موجودًا وماثلًا فى كل البيوت يؤرق أولياء الأمور، ويخيف التلاميذ من تحديد مصيرهم فى نهاية العام من خلال المجموع الذى سيحصل عليه كل منهم.
ولم يتغير شىء فى معاناة التلاميذ والأهالى رغم أملنا فى التغيير، فالذى كان يحدث من انهيارات التلاميذ وصعوبة بعض الامتحانات تكرر هذا العام أيضًا، وعندما أعلنت نتيجة امتحانات الثانوية العامة التى بدأت فى ١٠ يوليو وانتهت فى ١٥ أغسطس، رأينا بكاءً وانهيارات عند إعلان النتيجة كما رأينا بكاءً وانهيارات أمام لجان الامتحان، فقد أعلن وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى أن نسبة النجاح بلغت ٧٤ فى المائة، مما نتجت عنه عدة وقفات احتجاجية لطلاب الثانوية العامة أمام وزارة التربية والتعليم احتجاجًا على النتيجة، وبلغ عدد التظلمات ٢١٥ ألف تظلم، وهو عدد كبير، وستعلن نتيجة التظلمات يوم ١٥ سبتمبر المقبل، وستتم التظلمات إلكترونيًا، كما سيتم تسليم الطالب نسخة إلكترونية من ورقة إجابته للاطلاع عليها بنفسه.. وذلك عقب عام شهد ظروفًا استثنائية بسبب تفشى فيروس كورونا واعتماد نظام البابل شات فى أسئلة الامتحان ونظام الماسح الضوئى بغرض الشفافية والعدل بين الطلاب. 
وأكد الوزير الدكتور طارق شوقى أن هناك تغييرًا جذريًا فى نوعية وشكل الأسئلة وكذلك طرق التصحيح تتنافى مع الأفكار القديمة والتكهنات المبنية على الأعوام الماضية، وأوضح أن التقييم الجديد نجح فى المستهدف وهو فرز مستويات الأداء بالاختيار فى المقاعد بالكليات، وأنه فرز فعلًا المستويات العقلية للطلاب وأحقيتهم فى المقاعد الجامعية.
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن متى ستنتهى أزمة الثانوية العامة فى بلدنا؟ ومتى سيتغير هذا النظام الذى يشبه الشبح الذى يخيم على البيوت بحيث يحصر مستقبل الطلاب فى المجموع بالثانوية العامة مما ليس له مثيل فى العالم؟ ومتى سنغير من نظام يركز التفوق والنجاح فى الحياة فى امتحانات الثانوية العامة رغم أن النجاح فى الحياه فعليًا لا يكون بالضرورة بسبب المجموع الكبير وإنما له مواصفات أخرى ومتطلبات أخرى؟
إن نظرة على الأرقام الكبيرة ستجعلنا ندرك عدد البيوت التى تتعقد الحياة فيها من أجل حصول الأبناء على مجموع كبير فى الثانوية العامة من أجل دخول إحدى كليات القمة.. إن عدد الطلبة والطالبات بلغ هذا العام ٦٤٩ ألفًا و٣٨٧ طالبًا وطالبة، وبلغ عدد اللجان ٢١٨٩، منها ١٧٩٤ لجنة إلكترونية و٣٩٥ لجنة ورقية.. ومع قدوم كل وزير جديد للتعليم فى بلدنا نأمل فى القضاء على شبح الثانوية العامة ثم لا يختفى الشبح ولا يتم التخلص من الخوف الذى تعيشه البيوت التى لديها ابن أو ابنة فى الثانوية العامة، ولا تنتهى انهيارات الطلبة والطالبات أمام لجان الامتحانات.
أتمنى أن نعيد التفكير فى بث مفاهيم جديدة تتناسب مع احتياجات تقدم المجتمع واستقراره وسلامه وبنائه وتنويره وتطويره، وأن نعيد التفكير فى كيفية تغيير نظام الخوف والفزع المستمر الذى يخيم كل عام على مئات الآلاف من البيوت المصرية والطلبة والطالبات وأهاليهم من المجموع فى الثانوية العامة، باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحديد مسار مستقبل الطالب والطالبة، فالنجاح فى الحياة له مقاييس أخرى مختلفة عن المجموع الكبير فى الثانوية العامة، والتفوق يكون فى اختيار مهنة نحلم بها ونحبها ونجتهد فى النجاح فيها، وتكون ذات فائدة ونفع للوطن، والنجاح فى الحياة ليس بالضرورة عبر كليات القمة وليس بالضرورة عبر المجموع الكبير فى الثانوية العامة.