رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القاهرة - بغداد

 

 

يمكن وصف خطاب الرئيس السيسى فى قمة بغداد، بالأمس، بأنه كان خطاب «العقل والعاطفة»، الوصف نفسه يمكن إطلاقه على علاقة البلدين حاليًا، وربما على مدار التاريخ.. بلدان عريقان يستندان لحضارات عريقة موغلة فى القدم، فى العصر الإسلامى تصبح بغداد مركز الخلافة، لكن مصر، وهى نظريًا ولاية تابعة، تتحول إلى ندٍ قوى، وهذه الندية تعبر عن نفسها فى زواج أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون بالخليفة العباسى المعتضد بالله.. زواج أسطورى يهدف والدها منه إلى إعلان التكافؤ والتفوق والولاء أيضًا عبر ذهابها بغداد محملة بأطنان من الذهب والمجوهرات.. لتدخل التاريخ باعتبارها «قطر الندى» أشهر عروس مصرية فى التاريخ.. بكل تأكيد ألهمت ثورة يوليو، الضباط العراقيين وهم يقومون بثورتهم عام ١٩٥٨، ثم وهم يقومون بحركة تصحيحية عام ١٩٦٣ فى اتجاه تقارب وطلب للوحدة مع مصر، وفى حرب أكتوبر كانت القوات العراقية هى الثالثة عدديًا بعد الجيشين المصرى والسورى، وإن تركزت على الجبهة السورية، فى حين لبى الجيش المصرى نداء العراق فى أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وكان لخبرائه الإسهام الأكبر فى تحرير جزيرة الفاو العراقية عام ١٩٨٨، مع مساندة دائمة طوال سنوات الحرب.. ولم يكن غريبًا أن يلقى المصريون كل ترحيب فى العراق، وأن يمنحوا حقوق الإقامة والتملك وكل ما يتمتع به العراقيون من حقوق.. دائمًا كانت الظروف تتدخل لتقطع هذه العلاقة ذات البعد العاطفى والحضارى والسياسى.. فقد تدخل القدر ورياح الصحراء ليسقطا طائرة الرئيس العراقى الأقرب لمصر عبدالسلام عارف عام ١٩٦٦، لتسير الأمور بعده وبعد نكسة يونيو فى اتجاه آخر، وتدخلت ظروف السياسة لتفصم عرى تعاون كبير امتد طوال الثمانينيات، ولا شك أن غزو العراق والتنكيل بجيشه كانا بداية موجة تغيرات كبيرة توجها الربيع العربى، وسط مخططات كانت ترسم للمنطقة تأثرت بها مصر بكل تأكيد، ولكنها عبرتها بسلام بفضل جيشها، وها هى تأخذ بيد العراق وهو يتعافى من ثمانية عشر عامًا كاملة من الاحتلال، والطائفية، والإرهاب، والصراع الإقليمى على أرضه، وفى زاوية المشهد ترى مساندة مصرية قوية، والتفاتة مبكرة لإفاقة العراق، من قبل أن يعلن عن عودته فى مؤتمر دعم العراق بشهور طويلة، فمصر المهتمة بمحيطها، وصاحبة الرهان على مؤسسات الدولة، انتبهت مبكرًا لقدرات رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى، القادم من خلفية أمنية وسياسية، الذى جاء كحل أخير لأزمات عراقية متتالية لكنه أثبت نجاحًا مبشرًا، لتمضى مصر فى رهانها على العراق، وتوقع بغداد وعمّان والقاهرة على اتفاقات تعاون اقتصادى وخطط تبادل طاقة وخبرات مختلفة، فى قمة بغداد بدت كلمة الرئيس السيسى محملة بشحنة عاطفية، وبنصيحة صادقة للشعب العراقى بالانتباه لما يحاك له، وبالتعاون، وباستخدام التعدد الطائفى والعرقى كميزة نسبية وليس كركيزة للصراع، هناك أيضًا ذلك الوعى الصامت بالمؤامرات التى حيكت للمنطقة، والتى خرجت مصر منها صامدة، وراحت تمد يدها لدولها واحدة تلو الأخرى لتخرج من آثارها، هناك أيضًا ذلك الاشتراك فى مواجهة الإرهاب، ومن يحركه، والوعى بأن المؤسسات الوطنية للدول هى الوحيدة التى يمكن أن تخوض المعركة نيابة عن شعوبها.. أما من ناحية العقل فهناك المصلحة المشتركة لهذين البلدين اللذين يشكلان ركيزة لمحور عربى قوى يمكن أن تنضم له دول أخرى، بحيث يشكل حائط صد لمحاور مختلفة تتكون، ولقوى إقليمية تتربص، هناك الخبرة المصرية المتراكمة فى الإعمار وفى البنية الأساسية وفى التصدى للإرهاب، وهناك النفط العراقى، وهى صيغة تعاون أعلنت عن نفسها بتعبير «النفط مقابل الإعمار»، لتجاور صيغة أخرى تم اعتمادها بالفعل وهى «النفط مقابل الكهرباء».. وربما فى الطريق عشرات الصيغ الأخرى للتعاون.. والمعنى هنا أن مصر والعراق استوعبا دروس الماضى القاسية، سواء ما حدث مع مصر فى الستينيات، أو ما حدث مع العراق فى التسعينيات، وإن طرازًا جديدًا من الزعماء يتحلى بالواقعية، والاحترافية، والقدرة على التعامل مع الواقع، تصدى لحمل المسئولية، حالمًا بنهضة تليق بالبلدين العريقين، ومعتزمًا تحقيق الأحلام التى تم إجهاضها فى الماضى، المعنى أيضًا أن مصر المنخرطة فى التحديث، والبناء، والتعمير، لا تنكفئ على نفسها، وتتطلع حولها بعين فاحصة، وقادرة على الكشف، وتفرز معادن الأنظمة والرجال، ولا تضيع فرصة تضيف بها لمجالها الحيوى والإقليمى، وتؤدى بها دورها نحو وطنها العربى ونحو دورها التاريخى.. وهو ما يدعو للثقة والتفاؤل بكل تأكيد.