رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وداعا.. صوت المعركة

خسر الإعلام المصري واحدا من أهم رموزه و أحد أبرز صناعه ، فقد رحل الإذاعي الكبير حمدي الكنيسي نقيب الإعلاميين المؤسس و الرئيس الأسبق للإذاعة المصرية في مطلع الألفية . والراحل الكريم لم يكن قيمة مهنية فحسب، يبكي رحيله اليوم صناع مهنة الإعلام و سدنته ، بل تخطى هذا لكونه واحد من الأصوات الوطنية التي دافعت عن الوطن بالكلمة خلال حرب التحرير ببرنامجه الأشهر "صوت المعركة "و هو البرنامج الوحيد الذي استعان بصوت رئيس الجمهورية أنور السادات في مقدمته، وله أيضا "يوميات مراسل حربي" ، وهو البرنامج الذي كانت الأسر المصرية تنتظر بثه لتتلقف أخبار الجبهة.

والمميز في هذين البرنامجين هو نبرة صوت الكنيسي الذي استوعب أخطاء الإعلام إبان النكسة ، فانتهج النبرة الصادقة الهادئة التي لا تميل للتهويل و لا تنجرف نحو التهوين، و لكنه كان صادقا إلى أبعد مدى ، فوصل إلى قلوب الجماهير و صدقه الشارع بعد أن كاد الإعلام الوطني أن يفقد ثقة متابعيه على إثر الخطاب الإعلامي الذي انتهجناه خلال حرب يوينو 67 . و قد التقى الكنيسي خلالهما مع قادة اركان القوات المسلحة مثل محمد علي فهممي و الجمسي و أنا أطالب أسرة الكنيسي بالبحث عن هذه التسجيلات و إعادة بثها لأنها تمثل وثائق صوتية لقادة حرب أكتوبر تم تسجيلها في أثناء المعركة ، كما كان هو الذي قدم أبطال المعركة مثل عبدالعاطي صائد الدبابات.
 

و لنا مع الكنيسي الذي رحل عن عمر تجاوزالثمانين عاما ذكريات من الود و الأبوة و حسن المعاملة و الدعم المهني  الذي وجدناه منه بكل محبة و ترحاب – كما تلقيناه من رموز كثيرة من أبناء ماسبيرو الأحياء منهم و الأموات – سواء و نحن في بداية طريقنا المهني أو بعد أن خطونا فيه مسافات بعيدة . و هذه الذكريات تسبق دخولنا مبنى ماسبيرو بسنوات عديدة حيث كنا نتابع برامجه و أذكر منها "قصاقيص " الذي كانت تشاركه فيه الإذاعية الكبيرة نبيلة مكاوي . و تمتد في مواقف مهنية و إنسانية كثيرة . فمن مصادر فخري أنني قدمت لسنوات برنامج" تليفون و ميكروفون "الذي بدأ مع الكنيسي أغسطس سنة 1993 ، و توارثه عدد من رموز إذاعة صوت العرب حتى تشرفت بتقديمه لسنوات قبل أن أترك صوت العرب إلى مهمة إدارية و إذاعية أخرى.


كما أن مسيرة الكنيسي العملية تتشابه في بدايتها إلى حد كبير مع رحلتنا الشخصية ، حيث درسنا – مثله – الأدب الإنجليزي ، كما بدأ كلانا حياته العملية مدرسا للغة الإنجليزية بالتعليم الثانوي. و قد بدأ الكنيسي مسيرته الإذاعية كقارئ لنشرات الأخبار بالبرنامج العام . ثم مراقبا للبرامج الثقافية في صوت العرب . و منه إلى إذاعة الشباب و الرياضة كمدير عام لها ، قبل أن يعود إلى بيته "صوت العرب " كرئيس لها . سبقتها أعوام عمل خلالها مستشارا إعلاميا لمصر لدى كل من إنجلترا و الهند . و كان من بين أهم إنجازاته تأسيس و إدارة مهرجان القاهرة للإذاعة و التليفزيون سنة 1995، و الجميل أنه استعان بإذاعيين شباب لمساعدته في أمانة لجان التحكيم – و قد كنت أحدهم – مما أهل جيلا كبيرا من الإعلاميين للتتلمذ على أيدي كبار الإذاعيين العرب لمعرفة مواصفات البرنامج المتميز ، و هو ما صنع من بيننا كوادر استطاعت فيما بعد حصد جوائز المهرجانات لمصر ، و الأهم هو تعلمنا وسائل كسب الجمهور ، و معرفة أسهل الطرق للوصول إلى وجدان المستمعين.


وللرجل أيضا نشاطات إجتماعية واضحة فقد انتخب عضوا لمجلس إدارة النادي الأهلي في مجلس  عبده صالح الوحش و تولى رئاسة اللجنة الإعلامية والثقافية للنادي لعدة سنوات .  و كان رئيسا للجنة الثقافة و الإعلام في مجلس الشعب اعتبارا من عام 2001 . و الرجل فوق تميزه المهني ، كانت له اهتمامات إبداعية فهو واحد من كتاب القصة القصيرة ،حتى أن يوسف إدريس قال له يوما :" لماذا تركت كتابة القصة و أنت كاتب قصة أهم منا جميعا ؟ و كيف تهجرها و تتجه للإذاعة حيث يطير الكلام في الهواء ؟ " ، فضلا عن مؤلفات أخرى منها العسكرى و منها السياسى ومن بين مؤلفاته : " الساعة 2.5 بدأ الطوفان " ، " الحرب طريق السلام " ، "عاشر العشرة"،" يوميات مذيع في جبهة القتال" ،" كلام من لهب " ، " السلطة و طول العمر " وغيرها.


و للرجل إنجازات مهنية كثيرة لعل من أبرزها عمل برامج الهواء في إذاعة الشباب و الرياضة و نقلها فيما بعد إلى إذاعة صوت العرب عن فكرة للمخرج الإذاعي الشاب حينها أحمد فتح الله ، تحمس لها الكنيسي و دافع عنها حتى أصبحت واقعا ممتدا في كل برامج الإذاعة و انتقلت عدواها للتليفزيونات . كما يحسب للراحل تحمسه ا لعدد من الفنانين الشباب و تقديمه لهم ومن أبرزهم آمال ماهر .
رحم الله هذه القامة الإذاعية الكبيرة التي لحقت بقامات أخرى سبقته مؤخرا و كان آخرهم الرائد الإذاعي كامل البيطار . و رجائي أن يتم تجميع شهادات هؤلاء الرواد الذين رحلوا و الذين مازالوا على قيد الحياة و التي يوثقون فيها بأصواتهم المميزة لمرحلة مهمة من تاريخ مصر الحديث . فالخوف كل الخوف أن لا نحتفظ بجزء مهم من تاريخ مصر الصوتي ، و يتفرق بين مكتباتهم الخاصة ، قبل أن تتمكن الإذاعة من تجميعه و أرشفته وتوثيقه ليكون في ذمة التاريخ . و رجائي من ذوي الراحل الذين نعزيهم كما نعزي أنفسنا ، و كل من قام بالتسجيل معه أن يعملوا على جمع تسجيلاته للتوثيق و الحفظ ، و كذلك الحال بالنسبة لكل العمالقة ممن رحلوا أمثال وجدي الحكيم و نجوى أبو النجا و فاروق شوشة و صبري سلامة و غيرهم.