رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرياتى.. من دليل تليفوناتى

اضطرتني ظروف العمل أن أعيد فتح أجندة تليفوناتي بحثًا عن رقم تليفون أحد المصادر التي احتجت للتواصل معها، تصفح سريع لا يكاد يستغرق دقيقة أو دقيقتين خاصة أن أساتذتنا الأوائل علمونا كيف ننظم دليل التليفونات بإحدى طريقتين: إما أبجديًا لسهولة البحث حين يكون غرضك التواصل مع شخص بعينه، تعرفه جيدًا لكنك لا تحفظ رقم هاتفه، الطريقة الثانية هي التبويب حسب المهن والوظائف والتخصصات، فهذا قسم مخصص للسياسيين وآخر للفنانين وثالث للرياضيين وغيره لرجال لدين وهكذا، وهي تقسيمة يكون البحث بها أدق حين ترغب في إنجاز مهمة لا تملك مصادر مقربة في محيطها.
المهم أن عودتي لأجندة التليفونات أصبحت نادرة، لأن معظم المصادر المقربة صار مدونًا على هواتفنا وطريقة البحث الآلي صارت أيسر، وأسرع وأدق، لكن ما حدث هو أنني اضطررت للبحث في دليل التليفونات الورقي القديم فإذا بي أستغرق في هذه العملية ما لا يقل عن الساعتين،  إذ مع كل صفحة أقلبها أجد نفسي مضطرًا للوقوف مع وعند واحد أو أكثر من الأسماء كانت لي معهم ذكرى مباشرة، فقررت أن أقف عند بعض ما استوقفني وأنقله لحضراتكم غير أنني لن أذكر الاسم تصريحًا فمعظمهم انقطعت علاقتي بهم وبعضهم انتقل إلى رحمة الله.
واحد من هذه الأسماء كان وزيرًا نزيهًا منجزًا معمرًا - رحل عن عالمنا منذ فترة قصيرة - اشتهر بالنزاهة والزهد، التقيته وحاورته، فكان سخيًا في حديثه لا يبخل عليك بمعلومة ولا يتحفظ في بثها، فقد كان يمتلك من الشجاعة ما يجعله قادرًا على المواجهة إن فرضتها عليه الظروف.
في ذات الصفحة عثرت على اسم مطرب ذاع صيته كثيرًا منذ نحو عقدين، التقيت به في مهرجان غنائي وسعدت بالتسجيل معه، لكنه الحوار الذي لم يبث لا لعيب هندسي أو خلافه، ولكن لأنه حاول عن طريق مدير أعماله أن يقدم لي ما أسماه "هدية" مالية، فرفضتها بعنف وعاقبته بعدم بث المقابلة.
صحفي كبير يدعي الليبرالية ويدعوك لتقبل الآخر وإن اختلف معك فكريًا، كنا في بداية العهد بالسوشيال ميديا والفيسبوك، ناقشته يومًا على صفحته في رأي كتبه، فكان رد فعله بكل بساطة هو الحظر - رغم ما كان بيننا من صداقة في الواقع - ولم أكن قد سمعت بعد عن فلسفة البلوك تلك، لكنني تعلمت من هذا الموقف ألا أغلق بابًا للود وألا أحظر أحدًا مهما حدث، فقد نستأنف علاقتنا لاحقًا، فكيف ستكون العودة لصفحات محوناها؟
فنان قدير تولى منصب النقيب لإحدى النقابات الفنية، اتسم بالعفوية وبالمواقف السياسية المعارضة الواضحة، تذهب إليه للحوار فيجلسك وسط أهله وأولاده ويحدثك كواحد منهم وتخرج من حوارك معه بانطباع واحد، هو أن هذا الرجل ليس لديه ما يحاول محوه أو يسعى لإخفائه.
كوميديان صنع البسمة على الوجوه لسنوات عديدة، بسيط في معاملاته، صريح في كلامه، حين تجلس معه لتحادثه حديثًا إنسانيًا قبل أو بعد الحوار المهني تجده شخصية مختلفة تمامًا، فهو ليس بالشخص الضاحك المبتسم دائمًا كما يتصنع، وهو أيضًا ليس مسطحًا ولا هو ضحل الثقافة كما يوهم جمهوره، إنه عبقري حقيقي يجعل من النكتة رسالة يختزل بها رسائل كثيرة يوصلها للمسئولين في غلاف خادع يجعل المسئول يتقبل انتقاده وهو يبتسم، وهو رغم هذا المظهر الضاحك رجل يحمل مرارات لا يتحملها إنسان.
شاب مجتهد، والده رجل الأعمال، اشتغل والده بالعمل العام وانتخب عضوًا في البرلمان، وبعد أحداث 2011 عانى هذا الأب التهميش وانعزل عن المجتمع الذي كان أحد نجومه، ثم دارت الأيام دورتها من جديد واسترد الأب مكانته، لكنه كان من الذكاء فقرر أن يتنحى عن العمل الاجتماعي ليكتفي بمغامرات آخر العمر ويترك الساحة السياسية والعمل العام لأكبر أولاده ويقدم له الأب خبراته وحكمة السنين من بعيد وهو مستريح في ذلك الركن البعيد الهادئ.
أحد رموز تيار سياسي محظور، جلس يومًا في أعقاب أحداث يناير 2011 ينظر ويؤكد لي أن تياره السياسي لن يشارك في الانتخابات البرلمانية بغرض المغالبة، بل سيكتفون بالمشاركة، صدقته بفعل السذاجة السياسية، وحين أجريت الانتخابات شاركوا وغالبوا وغلبوا بفعل العاطفة الدينية لدى عموم المصريين، ثم رشحوا أحد رجالهم في الانتخابات الرئاسية، ومنذ ذلك الحين فقدوا أي مصداقية عندي أو تعاطف، بل صرت أحكي هذا الموقف وأنقله للناس حتى لا ينخدعوا في تجارتهم بالدين.
شخصية إدارية في مجال الرياضة ـ اشتهر باللسان الزالف الذي يتفنن في تجريح الآخرين - قلت له يومًا: محبوك يتمنون عليك أن تكون أخفض صوتًا وأقل حدة وأكثر هدوءًا، فكانت إجابته الواضحة: ساعتها لن يعرفني أحد.
وفي الأجندة الكثير من الأسماء تختصر عشرات الحكايات والكثير من الذكريات، قد يأتي يوم لسردها بتفاصيل أكثر وقد أكون أكثر جرأة لذكر أسماء أبطال تلك الحكايات التي هي حصيلة عمر مهني تجاوز ربع القرن.