رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما الذى يجرى فى الشمال الأفغانى.. هل تنقلب المعادلات؟

الشمال الأفغانى حيث «وادى بانشير» قد يصير خلال أيام هو محور الأحداث الأفغانية، بعد أسبوع واحد من إعلان حركة «طالبان» عن الاستيلاء على العاصمة كابول، وربما قبل الوصول إلى الموعد المتنازع عليه لتمام خروج القوات الأمريكية.

فالإدارة فى واشنطن ترى أن تحديدها الحادى عشر من سبتمبر المقبل أمر يجب ألا يُزعج أحدًا، خاصة مع الخطوات الجادة التى اتخذتها فى هذا المسار. 

فى الوقت الذى بدأت فيه طالبان تبدى شيئًا من التشدد بأن أول سبتمبر يمثل حد القبول بقوات أجنبية داخل أفغانستان، وهذا خلاف يعكس بوضوح مكونات المشهد الحالى، أو ما يمكن اعتباره خلاصة ونتائج ما جرى منذ أحداث مطار كابول التى لم يمضِ عليها سوى أيام. 

لكن لماذا الشمال الأفغانى الآن، واعتباره مرشحًا لأن يسرق كثيرًا من الأضواء عن كابول وما يجرى فيها من عمليات إجلاء يصاحبها استحواذ ناعم وصارم فى الوقت ذاته من عناصر «طالبان» على مفاصلها؟

كلمة السر قد تكون «أحمد مسعود»، نجل القيادى الأفغانى التاريخى الراحل «أحمد شاه مسعود»، فتسارع الأحداث يُنذر بمواجهة عسكرية بين حركة طالبان التى تريد اقتحام الولاية، ومعارضيها الذين تجمعوا هناك على عجل وبدأوا يتحصنون هناك، فيما يشبه إلى حد كبير قصة والد أحمد، الذى كان عنوانًا رئيسيًا لمقاومة الاتحاد السوفيتى السابق فى الثمانينيات، ومن ثم استمر فى مواجهة حركة طالبان فى التسعينيات من القرن الماضى.

إقليم بانشير لم يسقط فى أيدى طالبان مثلما سقطت المدن والمحافظات الأخرى فى أفغانستان، بما فى ذلك العاصمة كابول، بل على العكس لجأ إليه مؤخرًا نائب الرئيس الأفغانى السابق «أمر الله صالح»، لينضم رفقة أحمد مسعود إلى دعوة الناس إلى الانتفاضة والمقاومة ضد طالبان، فى حال فشلت المفاوضات التى يرفع لها مسعود طرحًا عامًا هو اعتماد «اللامركزية فى الحكم» لضمانة تحقيق نظام العدالة الاجتماعية والمساواة والحقوق والحرية للجميع. 

بالجغرافيا يقع «وادى بانشير» على مسافة ١٣٠ كيلومترًا شمال شرقى العاصمة كابول، بالقرب من الحدود الأفغانية الباكستانية، وتبلغ مساحته ٣٦١٠ كيلو مترًا مربعًا، ويقدر عدد سكانه بنحو ١٧٣ ألف نسمة غالبيتهم من قومية «الطاجيك» التى ينتمى إليها أحمد مسعود.

يشتهر الإقليم بمسمى «الأسود الخمسة» وهو الترجمة لكلمة «بانجشير» باللغة الفارسية، وتسمى بالوادى لأنه محاط بالجبال الشاهقة فضلًا عما يجرى فيه من الأنهار العذبة والجمال الطبيعى المميز، وقد اكتسب الوادى تاريخيًا مكانة مهمة لدى الأفغان.

يحتوى الوادى على الكثير من الأنفاق التى كانت ولا تزال ملاذًا وحصنًا منيعًا للمقاومة ضد الهجمات والأسلحة الجوية، إلى جانب التضاريس الوعرة والكهوف المنتشرة فى سلسلة الجبال الشاهقة. 

فى الفترة من عام ١٩٩٦ إلى ٢٠٠١، قاد شاه مسعود الأب مقاومته لعناصر حركة طالبان، الذين لم يتمكنوا بدورهم من السيطرة على المنطقة رغم سيطرتهم على البلاد كاملة فى حينه، وهذا ما سمح لمسعود بجمع مختلف الفصائل الأفغانية المناوئة لهم، وأنشأ التحالف الشمالى الذى سيطر على شمال وشرق البلاد. 

التحالف الشمالى الذى أسسه شاه مسعود، يمثل أكثر من ٣٠٪ من سكان البلاد، وجذب صمود التحالف ومقاومته لطالبان لسنوات عدة الولايات المتحدة التى بدأت بدعم تلك القوات البرية للسيطرة على بقية البلاد، والإطاحة بطالبان من السلطة بعد أحداث ١١ سبتمبر التى كانت السبب الرئيسى لعملية الغزو.

اليوم يريد نجله أحمد مسعود أن يقود مقاومة مماثلة، لكن هذه المرة بإمكانيات أقل مما كان يحظى بها والده، وحتى الآن لم تحاول طالبان دخول إقليم بانشير، لكنها تحاصره فعليًا من كل الجوانب.

ونحن أمام قيادة مختلفة أيضًا، فأحمد مسعود بعد التحاقه بمدارس فى طاجيكستان وإيران، درس بين عامى ٢٠١٠ إلى ٢٠١١ بأكاديمية «ساندهيرست» العسكرية الملكية البريطانية الشهيرة، كما حصل على درجة علمية متقدمة فى دراسات الحرب من جامعة «كينجز كوليج» البريطانية، ودرجة الماجستير فى علوم السياسة الدولية من جامعة «سيتى» فى لندن.

وقد دعا مسعود الابن صراحة الولايات المتحدة والأفغان فى الخارج إلى دعم «لجان المقاومة» ضد طالبان، وارتفع أيضًا العديد من الأصوات السياسية والعسكرية الأفغانية الداعية للتوجه نحو الولاية، من أجل إعادة تكرار ما يوصف بـ«ملحمة بانشير» الشهيرة فى مواجهة الاحتلال السوفيتى. 

لكن الثابت أنه فى اللحظة الراهنة تختلف سياقات الصراع وظروف البلاد فى الثمانينات، عما هى عليه فى الوقت الحالى، فقد كان الأب عسكريًا ووصل لمنصب وزير الدفاع فى حكومة «برهان الدين ربانى» قبل أن تسقط الأخيرة فى يد طالبان، وتتشكل على إثرها حركة مقاومة فى الشمال، ثم شكل الأب حركة المقاومة التى مثلت ما يمكن اعتباره التيار الإسلامى المعتدل، فى ظل كثافة وانتشار الأحزاب الماركسية بتنوعاتها الفكرية ومصادرها السياسية خلال الستينيات. 

فى حين شهدت عودة أحمد مسعود إلى بانشير فى عام ٢٠١٦، انحيازًا لفكرة العمل السياسى وهى الأرجح لديه مقابل الانخراط فى صراع مسلح، لكن نجل «أسد بانشير» يلوح الآن بالقتال فى ظل احتدام الأزمات، كما هو الحال مؤخرًا مع طالبان.

بل ويذهب إلى طرح نوع من المقاربات السياسية والحلول السلمية، من بينها المصالحة الوطنية وتدشين نظام «حكم فيدرالى»، وذلك بخلاف ما كان عليه والده نظرًا لطبيعة الوضع السياسى وقتها، وهو ما يظهر خلال العديد من كتاباته فى الصحافة الأجنبية وزياراته الخارجية.

وقد انتقد مسعود بحدة المفاوضات التى كانت تجريها الولايات المتحدة مع حركة طالبان، والتى أنتجت الخروج الأمريكى الأخير قائلًا «الأفغان لا يقودون هذه المفاوضات، بل هى مفاوضات بين الولايات المتحدة وطالبان، وما لم تتناول المفاوضات عملية توزيع السلطة على الجميع وتطبيق اللامركزية فى أفغانستان، فلن نتمكن من حل أى من المشاكل الحالية». 

هذا ما يطرحه مسعود الابن، وجميع من وصلوا لبانشير يدقون من حوله طبول المقاومة المسلحة، التى يمكنها سحب المشهد الأفغانى برمته إلى ما لا تُحمد عقباه، والمعادلة فعليًا تقف فى مفترق طرق، ليس هناك ما يمكن وضعه فى ترجيح كفة عن أخرى إلا بقرار وقناعة من أحمد مسعود نفسه.