رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حصانة العقل أم سلامة النقل؟

فى البداية، دعونا نتفق على أن مناهج تربية الإنسان سواء كانت آتية عبر الإملاءات الربانية مثل المعتقدات والديانات، أو من خلال المكاسب المعرفية الوضعية، فإنها تهدف كلها فى النهاية إلى تقويم السلوك البشرى وكبح جماح التهور البشرى الذى يسعى لإشباع حاجات الآدمى إن هو تُرك بلا محدد لحركته فى الحياة.

إذن هذه المناهج التربوية بما فيها الأديان لا تهدف إلى حشو الرصيد المعرفى فى ذاكرة الإنسان، وإنما تهدف إلى تأسيس مرجعية فكرية تخدم الإنسان لدى اتخاذ القرار أو حتى لدى المفاضلة بين القرارات.

كثر الجدل فى الآونة الأخيرة حول التراث المنقول من السلف إلى المعاصرة، وهو فى الحقيقة موروث بدأ تأصيله بعد وفاة النبى ﷺ بنحو قرنين من الزمان، بصرف النظر عن آلية النقل عبر التواتر أو أحاديث الآحاد أو الإجماع، إلا أنه فى النهاية يرتكز على دعامتين، هما السند أى سند النقل وموثوقية الرواة، والمتن من ناحية أخرى وهو المحتوى الذى ينقله الحديث أو التفسير.

هناك مدرستان فى فهم وقبول الرواية وإقرار قوتها أو ضعفها، سواء أكانت حديثًا نبويًا أو تفسيرًا أو حتى قولًا مأثورًا عن أحد الصحابة، فالمدرسة الأولى تعتد أكثر بموثوقية الراوى وقيمته ومرجعيته، ومن ثم توسم روايته بالضعف أو القوة وفق سيرته الذاتية، وهناك المدرسة الأخرى التى تركز فى منطقية المتن ومدى توافق هذا المتن أو اختلافه مع النص المقدس من ناحية، أو اتساقه مع القيم والأخلاق القرآنية من ناحية أخرى، أو حتى مطابقته الفطرة البشرية من وجهة ثالثة.

ليس خفيًا عن الكثيرين أن الفقه ليس هو النص المقدس، وإنما هو فهم الفرد للنص المقدس من ناحية المعنى أو تدارك الأحكام أو حتى قراءة البلاغة القرآنية فى سياق مراد الله تعالى، ومن ثم فالفقه بهذا التعريف قد يرد معه اختلاف الأفهام فى أحيان كثيرة.

الثابت فى المنحة الإلهية هو أن التشريع يخدم كل إنسان، ويصاحبه تشريع للأقوام فى أى مكان، ويصح تطبيقه فى كل زمان، إلا أن تباين الأفهام وفق ما جاء بتعريف «الفقه» أوجد خلافات واختلافات فى فهم المحكم الربانى، مما أربك الشق الأول فى القاعدة وهو صلاحية التشريع لكل الأقوام، بل وامتد الاشتباك أيضًا إلى ظن البعض بعدم ملاءمته سياق المعاصرة، وهو أمر لا يقبل ظنيته وهو حديث الله تعالى فى كتابه المبين.

بدأ الصراع الجدلى المعنون «تجديد الخطاب الدينى» عندما تأجج الخلاف بين أفهام المدرستين، وأصبح العراك تحت هذه المظلة رهنًا بالمقصود من تغيير الخطاب الدينى، فهناك من ظن بأن تجديد الخطاب الدينى معناه حرق كتب ابن تيمية، ومحو أشرطة شيوخ الفقه وخطاب المنابر، بل امتد الأمر إلى المطالبة بتعديل بعض المناهج الدراسية بالأزهر الشريف وتنقية التراث من مدسوسات عُرفت بالإسرائيليات تارة، ورجعية الفكر الوهابى تارة أخرى، ولذلك، استلزم الأمر اتفاق أهل العلم على تعريف معنى تجديد الخطاب الدينى، والوقوف على مبررات السير فى هذا المسعى. 

يرى البعض أن تجديد الخطاب الدينى هو تنقية التراث الفقهى من الأفهام التى لا تتفق مع الكتاب الكريم أو السنة النبوية، ويرى البعض الآخر أن تجديد الخطاب الدينى هو عملية فصل الارتباط السلوكى للبشر عن الفهم المغلوط للشريعة، فلا الإسلام ولا نبى الإسلام مباهٍ بكثرة المسلمين بين الأمم افتخارًا بالعزوة العددية، وهناك مدرسة ثالثة تسعى إلى دعوة الفقه ليستخدم مفردات العصر فتصبح الدواب هى المركبات ووسائل النقل، واعتبار أن الأحاديث المخفية فى صفحات التواصل الإلكترونى هى ضرب من الخلوة المنهى عنها شرعًا.

تصادف قبل يومين أن أجرى فخامة الرئيس مداخلة مع إحدى القنوات الفضائية وأعرب عن رغبته فى دعوة العقل للتأمل والتدبر والانتماء المقصود للعقيدة عوضًا عن الانتماء للموروث، وهى رسالة تخدم معنى إعمال العقل كما أمر رب العزة، وبنيت الفكرة على تحصين العقل فى مجمله ضد الحشو الفقهى المغلوط فى كثير من الأحيان عوضًا عن تجديد الخطاب المبنى على الجدل والمناظرات وتفوه الألسنة، وهى أساليب تمت تجربتها ولم تؤتِ نتائج طيبة، بل واتضح أنها محاولات مرهقة فكريًا. 

من الثابت علميًا أن تحصين البدن ضد المرض لا يقضى على المرض، وإنما يضمن عدم وقوع المحصِن فريسة للمرض، وهنا تكمن فلسفة التحصين كوسيلة حماية وحائط صد منيع ضد قبول الأفهام المغلوطة أو المتعارضة مع الأوامر والنواهى الربانية بالكتاب الكريم.

ترى ما الذى تسبب فى سهولة التعتيم الفقى لدى جزء كبير من العقل الجمعى؟

للإجابة عن هذا التساؤل تجب العودة إلى قراءة بعض الجوانب التربوية المؤثرة فى بناء الشخصية، وهى، كما يصفها المتخصصون فى علم النفس وعلوم التربية، بأنها ميراث الحفر فى أذهان الطفولة بالحواديت والخرافات والأساطير التى تؤسس لبناء شخصية تقبل أى خيالات أو ماورائيات خارقة للمنطق ومعادية للتعامل مع الرصيد المعرفى أو التفكير العلمى.

تضع مناهج التربية الحديثة محددات للتلقى غير العلمى مثل الشخصيات الخرافية وأشهرها شخصية القط والفأر «توم وجيرى»، والتى اعتمد الإبداع التربوى على تفريخ الشخصيتين من الوصف «الحيوانى» وتحميلهما برسائل تربوية تصل للطفل على شكل دروس قيمية ومواعظ ينمو معها الطفل دون أن توجد بذهنه مساحة مليئة بالخرافات والمستحيلات التى لا يتم تبادلها بالحذف والإضافة إلا بخرافات أو خوارق مماثلة.