رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حنا مينا.. الكفاح والفرح الإنسانى

تحل فى أغسطس ذكرى رحيل حنا مينا الثالثة، الروائى الكبير الذى فارقنا فى ٢٠١٨، وقد أغنى الأدب العربى بأكثر من ثلاثين رواية وعدد من المجموعات القصصية وسيرة حياة حافلة بالتنوع والعطاء. وفى الستينيات كنا نقرأ حنا مينا جنبًا إلى جنب مع نجيب محفوظ، وقد أثارت رواياته خاصة «الشراع والعاصفة»، و«المصابيح الزرق» اهتمامًا كبيرًا، لأسباب فنية وفكرية عميقة. 

ذات يوم قال حنا مينا عن نفسه إنه: «كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين»، وقد صورت تلك العبارة حياة الروائى، وأيضًا إدراكه دور الأدب، فقد كانت حياته شاقة منذ الطفولة فى لواء الإسكندرون، ثم اللاذقية، وأجبرته الظروف على العمل كمصلح دراجات، وجليس أطفال فى بيوت السادة الأثرياء، وعامل فى صيدلية، وحلاق، وحمال فى الميناء، وارتبط خلال ذلك بالبحر ارتباطًا خاصًا لم يتسن لأى أديب عربى، ودار معظم رواياته عن البحر، وقال فى ذلك ذات يوم: «أكثرية الأدباء العرب لم يكتبوا عن البحر، لأنهم خافوا معاينة الموت فى جبهة الموج الصاخب، أما أنا فقد كان البحر مهنة أجدادى». وفقط عام ١٩٤٧ استقر حنا مينا على طريق الأدب فى دمشق حين التحق بجريدة «الإنشاء»، حتى أصبح رئيس تحريرها. ويعد حنا مينا من مؤسسى الرواية العربية مع نجيب محفوظ، ومع الروائى السورى الكبير عبدالسلام العجيلى، وحيدر حيدر، وغيرهم. وقد شكل حنا مينا حلقة خاصة فى دور السوريين التاريخى فى إغناء الأدب العربى وتجديده، سواء من الشام أو بحضور البعض منهم إلى مصر وتأثيرهم المباشر فى الثقافة العربية المصرية، ففى الصحافة وحدها تأسست أول صحيفة فى الإسكندرية، وهى «كوكب الشرق» على يد سليم الحموى «نسبة إلى حماة فى سوريا» عام ١٨٧٣، وظهرت كبرى الصحف فى القاهرة على يدى الأخوين سليم وبشارة تقلا السوريين بعد ذلك بعامين فى ١٨٧٥، ويرجع البعض بدايات المسرح المصرى إلى يعقوب صنوع الشهير بـ«أبو نظارة»، رائد المسرح ورائد الصحافة الساخرة الذى أنشأ جريدة «أبو نظارة» عام ١٨٧٦. وفى الموسيقى والغناء قدم لنا السوريون والشوام فريد الأطرش، ومعجزة الغناء أسمهان، ونجاح سلام صاحبة واحدة من أجمل الأغانى «يا أغلى اسم فى الوجود يا مصر»، وأيضًا فايزة أحمد، التى قال محمد عبدالوهاب عن صوتها إنه «ألماس متكسر»، وقد ولدت ونشأت فى دمشق، وتقدمت هناك إلى مسابقة إذاعية لم تنجح فيها، فجاءت مع أسرتها إلى مصر. مارى منيب أيضًا، الضاحكة الجميلة، جاءت إلى مصر مع والدتها بحثًا عن أبيها الخواجة «سليم»، الذى اتجه إلى القاهرة ليضارب فى القطن، ولما طال غيابه سافرت الأسرة للبحث عنه فى القاهرة. وعندما نستحضر التأثير السورى، لا ننسى أنه عندما تعطلت الإذاعة المصرية، خلال العدوان الثلاثى على مصر، فوجئ العالم بصيحة الإذاعى السورى الهادى البكار من إذاعة دمشق: «هنا القاهرة من دمشق»! إنه تاريخ يؤكد أن مصر طالما نطقت من دمشق، وطالما نطقت دمشق من القاهرة، وحنا مينا فى كل ذلك صفحة أدبية رفيعة من دفتر تاريخ مشترك من «الكفاح والفرح الإنسانيين» على حد تعبير حنا مينا.