رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخ يعتدى على تاريخ

إزالة قصر توفيق أندراوس فى الأقصر تبدو قضية مركبة، لفت نظرى كتابات على فيسبوك لمثقفين محترمين تندد بالبدء فى هدم القصر الذى يعود عمره لمائة وعشرين عامًا.. هدم مبنى أثرى كفكرة مجردة مرفرض تمامًا بكل تأكيد.. دفعنى الاهتمام لإجراء بحث سريع فى محرك البحث «جوجل»، فاكتشفت أننا إزاء قضية لها أكثر من وجه ولا تخلو من قدر كبير من الإثارة، القصر تاريخى بالفعل لكنه يقع فى حرم معبد الأقصر الذى يعود عمره لثلاثة آلاف عام على الأقل، وحسب تصريحات الأثريين فهو يُشوّه بانوراما المعبد وطريق الكباش ومبنى فوق أرض المعبد، هنا تضعك الظروف فى اختيار بين أثرين أحدهما عمره مائة وعشرون عامًا، والآخر عمره ثلاثة آلاف عام بكل مدلولها الحضارى والقومى، أنت تختار بين قصر على الطراز الإيطالى وبين طريق الكباش الذى يضم ١٢٠٠ تمثال على هيئة أبوالهول صغير على امتداد ٢٧٠٠ متر، يتم ترميمها وتجهيزها ليفتتح الطريق فى مناسبة عالمية، هدم القصر كمعنى مجرد أمر مرفوض جدًا، لكن عندما يوضع فى سياق أكبر يبدو مفهومًا أو بمعنى أصح داعيًا لإعادة التفكير، إلى جانب هذا هناك الجانب المثير فى القصة.. فالقصر مبنى فى أرض أثرية، وطبيعى جدًا أن أرضه المسجلة كملكية خاصة تحتوى على كنوز أثرية، أدى هذا للقبض على مجموعة من مالكيه ومعاونيهم فى قضية تنقيب عن الآثار الموجودة تحت القصر، وهذا فى حد ذاته مبرر لنزع الملكية، هذه القضية التى دارت وقائعها فى العام الماضى ليست قمة الإثارة.. الأرشيف يحمل مفاجأة أخرى مثيرة.. فى سنة ٢٠١٣ وقعت جريمة قتل فى القصر، الضحيتان هما «لودى وصوفى» ابنتا توفيق باشا أندراوس.. كانتا معروفتين بأنهما أشهر آنستين فى الأقصر، كانتا قررتا عدم الزواج وأقامتا بمفردهما فى القصر سنوات طويلة، وحين وقعت الجريمة عام ٢٠١٣ كان عمرهما قد تجاوز الثمانين.. وُجدتا مضروبتين بآلة حادة، ولم توجد آثار تدل على رغبة القاتل فى السرقة، ربما كانت للجريمة علاقة بتجارة الآثار مثلًا، أو بالمحاولة التى تمت فيما بعد للبحث عن الآثار عبر سرداب فى بدروم القصر، كل هذه احتمالات والجريمة ظلت غامضة، والفاعل مجهولًا، كما يحدث أحيانًا فى بعض الجرائم الشهيرة، ما أريد أن أقوله إننا لسنا إزاء معنى مجرد لواقعة هدم مبنى له قيمة تاريخية، ولكن إزاء وضع مركب يخلقه المكان الذى يقع فيه هذا المبنى، ووجوده على أرض معبد أثرى، ووجود كنوز أثرية تحت أرضه، وتورط ورثته فى محاولات للتنقيب عن الآثار، ووجود منازعات قضائية بين وزارة الآثار وبين مالكيه، ربما تعود إلى بدء مشروع تطوير طريق الكباش الذى أوقفته الأحداث بعد ٢٠١١، ما يجعل الموضوع مركبًا أن كل تطوير ينطوى على إزالة لشىء ما، من أجل التأسيس لشىء ما، والاختيار هنا يجب أن يكون بميزان الذهب، فى آخر زيارة للأقصر، منذ ثلاث سنوات، لفت نظرى أن مسجد سيدى أبوالحجاج الأقصرى مقام بالكامل فوق معبد الأقصر، لا أعرف ما حدث للمسجد، ولكن فى مرحلة ما ربما يقتضى التطوير نقل المسجد لمكان آخر، هذا مثلًا لن يكون مزعجًا للمثقفين الذين يزعجهم- عن حق- هدم مبنى تاريخى، لكنه سيكون مزعجًا لآخرين من البسطاء أو ذوى الثقافة التقليدية.. عمليات التطوير لا بد أن تكون لها آثار جانبية، مثل الأثر الجانبى لدواء ما، والطبيب هو الذى يحدد وفق قواعد معينة ما إذا كان الدواء ضروريًا أم لا.. فى حالة قصر أندراوس باشا فإننى أنحاز لطريق الكباش لأن قيمته التاريخية والحضارية تتجاوز القصر مئات أو آلاف المرات، لكن هذا لا ينفى حاجة الحكومة لطرح الخطوات ذات الأبعاد المتداخلة للحوار قبل البدء فى تنفيذها، وطرح ما لديها من حقائق بشكل واضح أثناء هذا الحوار، حتى لو استدعى هذا تأسيس لجنة للحوار المجتمعى، أو تعيين مفوض للحوار مع سكان الأحياء والمناطق التى تمسها خطوات التطوير، لأن الإنجازات الكبيرة التى تحدث غالبًا ما تتعرض لتشويه ما، بسبب غياب عرض الحقائق بشكل واضح، وفى توقيت مناسب.