رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عشوائية المشهد وغوغائية الشارع

أن تكبر فتجد نفسك بلا عِلم وحتى بلا تربية فقد يغفر لك عند المجتمع حاضرك الذي تعيشه دون أن تؤذي غيرك، وأن تكون فقيرًا أو معدمًا فهذا لا يشينك، وأن يكون ذوقك متدنيًا سواء في ملبسك أو مأكلك أو ما تسمع فهذا شأنك ما دمت لا تفرض ذوقك على أذواق الآخرين، وأن يمن الله عليك ويهبك من الرزق أوسعه فهذا أيضًا لا يدينك ولا ينبغي أن نطاردك بالسؤال المشروع "من أين لك هذا؟"، فتلك مهمة أجهزة معينة في الدولة للسؤال والتحري وضبط المعوج من أمور المواطنين والوافدين.

هذه ببساطة الفلسفة التي تحكم المجتمعات المتحضرة، أما تلك البيئات الأكثر تحضرًا فهي التي يجتهد ساكنوها لتهذيب المعوج وتوجيه الشارد وتنظيم المتسيب من أفرادها، ورويدًا رويدًا ينتظم حال الجميع ما يضمن السلام المجتمعي لكل أفراد هذا المجتمع، أما ما نشهده هذه الأيام من عشوائية تسود المشهد وغوغائية تميز الشارع فتلك آفة الآفات وأزمة الأزمات.

فأن تشاهد مدعيًا للفن فرضته علينا ظروف المجتمع ووسائل التواصل- في واحدة من أبرز مساوئها- وجعلته يتصدر المشهد ليقول أي شيء في أي وقت بلا أي هدف سوى ركوب التريند، وبغية تحصيل مزيد من الأموال التي تأتيه من حيث لا جهد يبذل ولا علم يحصل، ويتدخل سيادته بتوجيه النصيحة لعموم الشعب، خاصة الشباب، بأن المال هو الأهم وأن العلم والشهادات العلمية لا تعني شيئًا- فهذه طامة كبرى ونذير شؤم ومدعاة لقلق عظيم.

لا أبالغ بهذه التوصيفات للمشهد، فهذا الذي نشهده هو مرحلة متقدمة من مراحل التطور الطبيعي لانحدار الذوق العام، وتدهور ثقافة المجتمع، وتخلي المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية والشبابية عن القيام بدورها المقدر.. ولا مجال هنا لبحث أسباب هذا الانحدار الذي قاد تلك المؤسسات إلى التخلي عن دورها الذي قادت به سفينة الوعي والقوى الناعمة هذا الوطن نحو القمة لعشرات بل لمئات السنين.

لكن السؤال الأهم هو: هل هذه الأصوات النشاز التي صارت تتصدر المشهد هي أصوات تصدر عن جهل أم عن تخطيط محكم وتدبير خبيث؟ وفي المقابل هل جاء غياب الراقي من الأصوات والعاقل من الأفكار عن سهو أو بغير قصد؟ أم أن هذا يحدث عن عمد وبتدبير قوى معادية لهذا الوطن؟ ليست كلماتي تلك ترجمة لنظرة طباقية أو فئوية ينظر بها البعض نحو غيره، لكنها أسئلة مشروعة لمواطن يخاف على وطن ليس له غيره ويقلقه ما يحدث فيه من ظواهر مجتمعية مقحمة عليه.

فما معنى أن ينال بوست أو فيديو لشاب لم ينل من العلم إلا النزر اليسير مشاهدات ومتابعات تفوق متابعة مقال يكتبه أمثال محمد المخزنجي، أو قصيدة ينظمها فاروق جويدة، أو حوار يجريه عمر بطيشة، أو رواية تخطها سلوى بكر، أو لوحة يرسمها أحمد نوار، أو مسرحية يعرضها محمد صبحي، أو أغنية تشدو بها أنغام؟ وما مغزى هجمة الأسماء الغريبة على آذاننا ووصولها إلى مسامعنا هكذا بصورة عادية؟ فقد كان العرف السائد قديمًا هو أن يبحث مكتشف الموهبة الفنية عن اسم فني له يكون أفضل جرسًا على الأذن، أو أحسن نغمًا، أو أكثر قربًا من الجمهور الذي اختار أن يوجه إليه فنه.

والأمثلة على هذا كثيرة، بدءًا من وديع فرنسيس الذي صار وديع الصافي، وصولًا إلى اليسار خوري التي أصبحت إليسا، أما ما وصلنا إليه اليوم فهو الذي جعلنا نردد اسم شاكوش وبيكا وأوكا وغيرهم ممن صاروا نجوم التمثيل أو نجوم كرة القدم.

وأنا هنا لست في سياق الحكم على أخلاق هؤلاء ولا التقليل من شأن موهبتهم أو حتى السخرية من الأسماء التي اتخذوها كأسماء شهرة لأنفسهم، لكنني ألوم على مؤسساتنا التي تسمح لهم بالشيوع والذيوع والانتشار بأسماء مستغربة- ولا أقول شاذة- على الأذن المصرية فيصبحون هم فتيان الشاشات ونجوم المجتمعات وأصحاب أعلى التريندات، بينما علماء هذا الوطن ونجومه الحقيقيون الذين يحاربون الإرهاب أو يصنعون السياسات أو ينجزون الابتكارات والاختراعات يعانون مرارة التجاهل الإعلامي وآلام النكران المجتمعي.

صرخة متجردة نطلقها آملين أن يسمع صوتنا وأن يتصدى المسئولون لمهمة تصحيح المشهد العام وضبط الإيقاع، فالإحباط الذي قد يولده تداخل الألوان في الصورة، وعدم انتظام الوضع الثقافي أمر أرى من الواجب أن نحذر منه وأن ننبه إليه.

فنحن نربي أجيالنا الناشئة على قيم أراها شاذة عن مجتمعنا، فعشوائية المشهد لن يدفع ثمنها أفراد أساءوا أو جماعة قصرت، الكل سيدفع الثمن إن لم تنتبه مؤسسات صناعة الوعي، وإن لم يُلتفت باهتمام لضبط المشهد الإعلامي والفني والرياضي والثقافي.

نعم هو جهد عظيم وعمل مؤسسي ينبغي أن يُبذل، ولكن وطنا بحجم بلادنا قادر على تجاوز أزمة عابرة كهذه، وهي أمور مهما عظمت فمن الوارد حدوثها في أمم بحجم وتاريخ وعظمة بلادنا، وإنا لأكفاء للتصدي لها ودحرها وإعادة رسم اللوحة بما يليق بهذا الوطن.