رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طالبان الطبعة الجديدة.. من يصدق وإلى أين ستذهب؟

قضت حركة «طالبان»، يوم الثلاثاء كله- أى بعد ٤٨ ساعة فقط من صدمة الاستيلاء على كابول العاصمة- فى ضخ أكبر قدر ممكن من عبارات الطمأنة للداخل والخارج، بغية التخفيف من الأثر الفادح الذى صنعته عشرات المشاهد الصادمة التى صفعت العالم، وهو يتابع ما كان يجرى بـ«مطار حامد كرزاى» من فزع إنسانى، تمثل فى رغبة الفرار التى تملكت الآلاف من الشعب الأفغانى.

انتقلت هذه المشاعر سريعًا لملايين من المتابعين، وتسللت إلى نفوسهم حالة جمعية من إحباط ربما لم يتبينوا للوهلة الأولى من يقدر على انتشالهم منها، فالولايات المتحدة التى كانت طائراتها العسكرية والمدنية هى الملاذ الذى يتدافع إليها الأفغان المتعاونون، لم يمض ساعات إلا وجاء على لسان رئيسها ما يمكن اعتباره إقرارًا بالفشل، أو على الأقل هذا ما وصف به من سبقوه فى تولى منصب رئاسة الدولة الأكبر فى العالم، مبررًا قرار الخروج الأمريكى باعتباره تنفيذًا لوعد انتخابى بدا الغالبية من الرأى العام الأمريكى يوافقه عليه، ولم يكن هناك بد من الارتكان إلى بعض التخريجات السياسية المراوغة، من نوع الحرب التى لا سقف زمنى لها، والعزوف عن خوض حروب الآخرين، وظلت جل اتهاماته منصبة عمدًا على النظام الأفغانى والجيش اللذين انكشفا بأسرع مما كان مقدرًا لهما.

اللافت أنه لم يشر إلى طالبان إلا فى حدود بعض المسلكيات الواجب مراعاتها مستقبلًا، ليبقى المشهد أقرب إلى تسليم بأمر واقع، بعد نصب «شماعة» إخفاق النظام الذى فر من البلاد، والجيش الذى تهاوت عقيدته أو خلعها بمحض إرادته!

لكن هذا المشهد برمته لم يقنع أحدًا، وهو حقيقة عصىّ على التمرير الذى أراده الرئيس الأمريكى، وظلت هناك حاجة لشكل ما من الطمأنينة يجرى بثها لتعادل مراجل الغضب والحيرة التى تعصف بالمتابعين. 

لذلك جاء اختيار «ذبيح الله مجاهد» المتحدث باسم حركة طالبان، كى يخرج للعلن فى مؤتمر صحفى حاشد ليقدم «طالبان» فى طبعتها الجديدة الممسكة براية التسامح والعفو عن كل ما مضى طوال عقدين من الزمن.

والعفو هنا، كما أعلن، يشمل الأجانب كافة، وكل المتعاونين معهم، وأفصح بأريحية قد لا تناسب المشهد عبر القيادى الطالبانى، عن حزمة من الرسائل ترسم ملامح العهد الجديد وخطط المستقبل فى أفغانستان، أولاها أن الحركة جاءت لتؤسس إمارة إسلامية مستقلة، لكنها تؤكد فى الوقت ذاته أنها لن تقوم بتصفية حسابات مع أى من أطراف الداخل، بل ولن تستخدم كدولة أو أراضيها من أجل إلحاق الضرر بالآخرين. الرسالة الثانية وجهت إلى الخارج؛ فى جانب منها طمأنة بضمان تأمين مقار البعثات الدبلوماسية وحياة العاملين فيها، وعلى نحو آخر تصدير صورة انفتاح ممثلة فى طلب المساعدة من خلال الاستثمار والدعم المادى.

الرسالة الثالثة قصد بها فى لهجة مُعدة بعناية تتعلق بوضع المرأة الأفغانية داخل الوضع الجديد، وهى من القضايا التى ألحت أطراف دولية عديدة عليها طوال الأيام التى سبقت المؤتمر، فى الوقت الذى لم يكن هناك غيرها مما يمكن الحديث بشأنه. وأكد «ذبيح الله مجاهد» أن المستقبل الطالبانى سيشهد حضورًا نشطًا للمرأة الأفغانية، وطمأن العالم بأن حقوق المرأة محفوظة وفق مبادئ الشريعة الإسلامية، مشيرًا إلى أن المرأة سيسمح لها بالعمل فى البلاد، لا سيما والحكومة الجديدة ستعمل من اليوم الأول على خدمة مصالح الناس، ولن تسمح لأى جهة بإثارة النعرات الإثنية. 

لم يكن العالم يريد أن يستمع إلى أبعد من ذلك كإطار عام تقدم به طالبان نفسها، فى طبعة جديدة تمكنت من خلال عدم ممارسة العنف المسلح فى الاستيلاء على مقاليد السلطة بالعاصمة، ومن ثم الخروج من قلب كابول كرجال دولة مدربين بعناية كى يتلقوا أسئلة الإعلام الدولى المتلهف.

وهنا اتجهت الهمسات الدائرة خلف ستار هذه الأحداث المفاجئة بحثًا عمن أعد هذا المشهد، ومن أراد له أن يخرج على هذه الصورة؟ هناك من ذهب بعينيه إلى قطر وإلى شركات العلاقات العامة السياسية المتخصصة التى جرى جلبها إلى الدوحة، حيث بدت لمساتها واضحة بامتياز فى مؤتمر «ذبيح الله» الإعلامى ليس فى التنظيم وحده، إنما فى إخضاعه والقيادات الطالبانية كافة إلى قدر معتبر من التدريب والتأهيل للجيل الجديد الذى سيخرج لمواجهة العالم.

من ذهب لأبعد من ذلك تساءل عن المسمى السياسى لهذا الانتقال للسلطة ومدى القبول الدولى له، فالمحير أن المطلع على الاتفاقية التى جرت ما بين الولايات المتحدة وممثلى «طالبان» بالرعاية القطرية، لا يجد فيها ما جرى تنفيذه على الأرض من إزاحة هادئة للنظام الذى صار «سابقًا». وبات خروج مساحات الفساد التى ظلت تمارسه أمام الأعين الأمريكية الراعية، مسألة وقت ستتوالى خلاله الكشف عن حجم الصفقات السرية التى ظلت تعقد ما بين الحكومة وأطراف على صلة وثيقة بطالبان، وفى بعض الحالات مع قيادات الحركة ذاتها، جرى ذلك فى أمور عديدة لها علاقة بالخدمات اللوجستية التى كانت تقدم للولايات المختلفة، لكن الأخطر الذى بات على وشك الكشف عن تفاصيله يرتبط بصورة مباشرة بكميات متنوعة من الأسلحة والذخائر.

بعد تولى الرئيس بايدن بشهور معدودة، أعلن عن أنه سيتمم عملية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول ١١ سبتمبر ٢٠٢١، ومع بداية شهر أغسطس كان ما يقارب ٩٠٪ قد خرج بالفعل، وهنا برزت معضلة: هل تظل قوة محدودة قوامها «٢٥٠٠ إلى ٥٠٠٠ جندى أمريكى» من أجل مهمة إسناد طويل المدى للجيش الأفغانى.

من الواضح أن إجابة أجهزة الاستخبارات الأمريكية جاءت بـ«لا» وفق تقديرات واطلاع على حجم الفساد والهشاشة، التى صارت عنوانًا لصيقًا بهذا الجيش الذى بات يلقى سلاحه أو يسلمه إلى طالبان يوميًا فى عديد من الولايات التى سبقت العاصمة. وإلحاقًا بالمعضلة الأولى كان السؤال الخاص بالثانية التى لها علاقة بالسلاح الأمريكى الثقيل والمتطور، والمرجح أن تضع الحركة يدها عليه بمجرد إتمام الخروج العسكرى وتهاوى النظام الذى لم يكن بعيدًا عن ذات التقارير، التى حددته بأشهر معدودة ليصير الإخفاق يقتصر على المدة لكن تأكيد النتيجة حاضر، وماثل للعيان التى لم يصبها التردد رغم ذلك الوضوح فى الرؤية الأمريكية. 

عبر وضع تلك المعادلات والانكشافات وتأمل أحداث ما جرى، لا يمكن استبعاد شكل التمرير الأمريكى الذى يحمل الكثير لما بعده، فالذى خرج للعلن أقل كثيرًا من المخفى فيما يخص التعاون الطالبانى مع واشنطن مستقبلًا، حيث يظل الدور المركب المعد بعناية للطبعة الجديدة من «طالبان» مفتوحًا على مدى، يرتبط بشراسة الصراع الدولى وتوازنات الإقليم الذى تقع أفغانستان فى القلب منه، فضلًا عن حجم الثروات التى تحتاج إلى قبضة قوية تسمح بالبدء فى العمل عليها وفق شركاء جدد، ستكون أعينهم صوب مكونات الكعكة تارة وتجاه تعطيل وإرهاق المنافسين الآخرين تارة أخرى.