رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدعاة الديجيتال

تنامت فى العقد الأخير ظاهرة أربكت أركان الحياة فى مصر، وهى ظاهرة التشدق بالدين وارتداء عباءة الإسلام، ليحظى مرتديها بمصداقية ربما لا تكفى سلوكياته لفرضها على المتعاملين معه من ناحية، وللترويج لفكرة يعجز المنطق عن تبريرها أو سلعة لا تتمتع بمعايير الجودة من ناحية أخرى.

دعونا نعود بالذاكرة لخمسة عقود مضت ونفتش فى معتقد المصريين حول الصورة الذهنية لرجل الدين، ولمَن لم يعاصر تلك الحقبة يمكنه أن يستشف هذه العلاقة من خلال السينما المصرية، ولا شك أنها- أى السينما- قد وثقت هذه الفترة بما يكفى لقراءة الماضى دون الحاجة لمعايشة سنواته.

كان رجل الدين يتمتع بملمح لا يجرؤ أحد على تقليده، بدءًا بالزى الأزهرى، مرورًا بوقار يحول دون اندماجه فى صفوف العامة، فكان مقدمًا فى كل شىء، فى الطابور، وفى ركوب المواصلات العامة، وانتهاءً بفصاحة لغوية يتعامل بها فى حياته العامة بديلًا عن العامية التى كانت من نصيب بقية الناس، وكان رجل الدين يتمتع بمصداقية وأمانة تكفى لترويج ما بجعبته من نصائح أو فتاوى دون أدنى تشكك من جمهور التلقى.

ظهرت فى فترة الانفتاح الساداتى طبقة طفيلية تسلقت أكتاف المصريين بلا هوادة، أطلقوا على أنفسهم «رجال الأعمال»، وكادت تتوحد ملامح هؤلاء مع اختلاف أقدارهم المالية أو طبيعة البيزنس، بل كانت الصورة تشبه الزى الموحد، فهو يرتدى بدلة ذات جاكيت بياقة عريضة، وكرافات عريض وقميص أسود، ونظارة شمس وخاتم ذهب بأصبعه، وطبعًا لا ننسى الحقيبة المستطيلة، وهى غالبًا لم يكن بها سوى علبة السجائر الحمراء أو السيجار ومشط الشعر وأجندة وآلة حاسبة، وغالبًا ما كانت سيارته طراز فيات ١٣٢/٢٠٠٠، حتى إن السينما المصرية فى السبعينيات سلطت الأضواء على شخصية رجل الأعمال، التى أجاد أداءها الراحلان عادل أدهم ومحمود ياسين، وارتبطت هذه الشخصية بالثراء والنفوذ وحظوة النساء والحفلات الماجنة والخمر. 

فتحت هذه الصورة سقف الطموح لكل شاب أعزل مهنيًا أو محدود ماليًا، وبعد فشل سياسة الانفتاح وظهور مافيا الثراء غير المنظم وفضائح رجال الأعمال، بدءًا من تاجر الفراخ توفيق عبدالحى، مرورًا بأصحاب شركات توظيف الأموال، وانتهاءً بالهاربين من سداد القروض البنكية- تشوهت صورة رجل الأعمال وباتت مادة للتندر بالشرف حتى فى السينما المصرية، ولكن لم يمت معها حلم الثراء، فكان لزامًا التفكير فى استراتيجية جديدة تقول لا للفساد، بل «حاشا لله» أن أكون فاسدًا، وهنا ظهرت عباءة الدين. 

كانت عبارات التقوى ضمن الأدوات الجديدة لصورة التاجر التقى البديل لرجل الأعمال الفاسد، فخرجوا علينا بلافتات ترتدى عباءة الدين، ولها مسميات تدل على التقوى، مثل «فراجى» عباد الرحمن وسوبر ماركت المروة وصيدلية الصفا وكشرى الصحابة ومستوصف على بن أبى طالب، ولانشون الحسين وشركة الحرمين لتوريط العمالة بالخارج وبرج الصفا والمروة وغيرها.

ترسخت هذه الملامح وصاحبها بعض المتغيرات اللغوية المعروفة بالفصحى السلفية سواء فى عبارات التحية أو الثناء، ومعها أيضًا متغيرات فى المظهر مثل الجلباب الأبيض القصير فوق الكعب وأطلق لحيته، وبديلًا عن القلم الباركر الذى كان فى جيب رجل الأعمال الحرامى، وضع المسواك.

لاقى هذا المشهد قبولًا حسنًا لدى المصريين، واتسعت هذه الاستراتيجية وتضمنت منهجًا جديدًا فى العلاقات الاجتماعية، وتمت صياغة مفهوم جديد للطبقية فغيّر العامل الزراعى أو عامل اليومية العائد من الخليج اسمه إلى الكنية الأبوية، قد غير جلده، واستبدل الجلباب الريفى بالثوب الأبيض والغترة الخليجية، ومنهم مَن لقب نفسه بالشيخ فلان وأطلق العنان لشهوته فى التجارة بالتدليس، ولم ينسَ حظه من الزواج بثانية وربما ثالثة بعدما أخرج زوجته الأولى من الخدمة.

قبل عقدين من نهاية الألفية خرج علينا بعض المثقفين بعباءة جديدة وهى عباءة الداعية الإسلامى، ولكن هذه المرة تمرد الداعية على الزى التقليدى لرجل الدين، فلا لحية، ولا جلباب، بل بدلة، والبعض من شباب «الدعاة» ظهر فى الفضائيات مرتديًا التيشيرت والبلو- جينز.

بدا الداعية الجديد مثقفًا، وهو فى الحقيقة قارئ لكتب التراث الإسلامى، ويحفظ بعض الأحاديث ويجيد توظيف لغة الجسد، وراح يروج لبضاعة جديدة عبر الإعلام المرئى والمسموع وهى الدين الميسر بلغة يفهمها البسطاء.

استفحل الأمر تباعًا وأصبحت الأدعية المنمقة مادة درامية لتسويق أسماء الدعاة وتحقيق حلم الثراء عبر أشرطة الكاسيت، ولعل أبشع الجرائم التى ارتكبها هؤلاء المتربحون هو صناعة الوسيط بين العباد وخالقهم بترويج ما يُعرف بصيغ الدعاء المقولبة، وهى صيغ لتلاوة الأدعية ولكنها ثرية بالوزن والقافية والسجع فى صياغة منمقة يصعب على الشخص العادى حفظها أو حتى ترديدها.

ازدهرت تجارة أدعية الكاسيت وتفنن التقنيون فى إضافة صدى الصوت والرنين الصوتى ليضيف هيبة على المادة الصوتية وإعطاء الإيحاء للمستمع بأن الشيخ محاط بعشرات الآلاف من المكبرين والمهللين، وهى بالطبع لا تعدو كونها تلاوة مسجلة عبر ورقة مكتوبة يحررها محترفو الكتابة باللغة المنمقة.

تطورت التجارة أكثر فأكثر مع انتشار وسائط التواصل الإلكترونى، وأصبحت مقاطع الفيديو عبر «يوتيوب» هى المسرح الجديد لاستقبال الناشئين الجدد من الدعاة، فدخلها صبية وسيدات وشيوخ، وباتت بديلة عن البرامج التليفزيونية التى يحتكرها كبار الشيوخ وجهابذة الدعاة، خاصة أن هذه المقاطع المصورة سريعة الرواج ويمكن لكل متحدث أن يضيف لنفسه ما يشاء من الألقاب، فأصبح الجميع فى ليلة وضحاها من حملة الدكتوراه.