رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تَذكِرة الكاتب.. وآخرين أيضًا

عام ١٩٢٣ نشر أسعد خليل داغر، الكاتب والشاعر اللبنانى المهاجر إلى مصر، كتابًا ممتعًا بعنوان «تَذْكِرة الكاتب»، وبرقة بالغة قال فى مقدمته لم أحاول أن أُعلم الكاتب شيئًا يجهله بل أردت أن أذكره بشىء نسيه، ولذلك سميته تذكرة الكاتب، أى أنه أراد فقط أن يذكِّر الكُتّاب بما يحتمل أنهم نسوه. أما الكتاب فموضوعه اللغة العربية والأخطاء الشائعة وتصويبها.

وقد عرض «داغر» كتابه هذا على أحمد تيمور باشا قبل أن ينشره، فكتب له تيمور رسالة جميلة وضعها داغر فى صدر الكتاب بخط تيمور، الذى كتب إليه يقول «سيدى وصديقى.. قرأت كتابك وأمعنت النظر فيه امتثالًا لإشارتك لا تطاولًا للحكم فى مثله، فإذا قلت إنك أجدت وأصبت وأفدت فيما قصدت فإنما أقوله على ما ظهر لى ووصل إليه علمى وفوق كل ذى علم عليم». ويشير داغر إلى أن الكثير من الألفاظ والتراكيب التى انتقدها مأخوذة كلها تقريبًا من أقوال كُتَّاب وشعراء يشار إليهم بالبنان، إلا أنه اجتنب ذكر أسمائهم.

والكتاب الذى انقضت عليه نحو مائة سنة يكاد يكون مكتوبًا اليوم، ليتصدى لأخطاء نسمعها ونقرأها اليوم فى الصحافة والثقافة والإذاعة والأدب ووسائل الإعلام. وتظل قضية اللغة بطبيعة الحال إحدى أهم القضايا المرتبطة بالهوية والقومية. وبهذا الصدد أشارت الدكتورة نبوية موسى فى كتابها «تاريخى بقلمى» إلى أن دروس قواعد اللغة العربية كانت حتى عام ١٩٠٦ تدرس فى المدارس باللغة الإنجليزية!! وضربت مثلًا بدرس كان وأخواتها الذى كان يترجم إلى «Can & Sisters»! لكن الكفاح المصرى الطويل ربط بين الهوية القومية وموضوع اللغة، وقد حارب كل زعماء الوطنية من أجل اعتماد اللغة العربية بدءًا من مصطفى كامل مرورًا بسعد زغلول الذى قال «يجب أن تكون غاية عملى جعل التعليم أهليًا» أى باللغة العربية فى المدارس المختلفة، ولم تكن تلك معركة سهلة، ولا هينة، ولإدراك ذلك أشير إلى أن السلطان حسين كامل بعث فى أكتوبر ١٩١٦ خطابًا إلى المندوب السامى البريطانى يطلب فيه التصريح بسك نقود جديدة، فجاءه الرد من لندن أن الحكومة البريطانية ترى أن استعمال اللغة الإنجليزية بجانب اللغة العربية على أحد وجهى العملة يكون مظهرًا للروابط الجديدة بين مصر وبريطانيا العظمى. 

هكذا كانت اللغة، جنبًا إلى جنب مع قوى الاستقلال والدستور، تخوض معركة التحرر من الاستعمار وسطوته لترسيخ الهوية الوطنية. وبعد نحو مائة عام من صدور «تذكرة الكاتب» ما زلنا للأسف نرى ونقرأ ونسمع ونشاهد أخطاء كثيرة تمر من دون اهتمام، بل وتكتب اللافتات والإشارات فى الشوارع بأخطاء نحوية ولغوية. ولا يطالب أحد بالتعمق أو التوغل فى الإلمام باللغة، إلا إذا تعلق الأمر بالأدب تحديدًا، وما عدا ذلك نأمل فى الانتباه لأخطاء مثل تلك التى يشير إليها أسعد داغر فى كتابه الممتع. ومن ذلك على سبيل المثال أنهم يقولون «ذهبوا إلى الرجل سوية» فيستعملون سوية بمعنى المصاحبة والاجتماع، مع أن كلمة سوية مؤنث سوى بمعنى الاستواء والإنصاف، فيقال «قسمت الشىء بينهما بالسوية»، والأصح ذهبوا إليه معًا. يقولون «التقى به» والفعل لا يحتاج إلى باء، والصواب التقاه، ولاقاه، ولقيه. ويقولون حديث شيق، يقصدون ممتعًا لكن الشيق هو الشخص المشتاق، وفى ذلك يقول المتنبى «ولى فؤاد شيق»، أما الصواب فهو «حديث شائق». مئات الكلمات والعبارات يصوبها اللبنانى الجميل المهذب أسعد خليل داغر، الذى يقول إنه فقط يذكِّر من نسى، ولا يقول أُعلِّم من لا يعرفون.