رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن حرمة الموتى وخصوصية الأحياء!

نشأنا وكبرنا، عرفنا وفهمنا، وعينا وتعلمنا أن للموت هيبة، وللميت حرمة، وأن الموت مصيبة لها جلالها، ولا بد من احترامها، هكذا علمونا منذ أن كنا صغاراً نلعب ألعاب الصغار، في زمن ما قبل العولمة، حيث المحمول وكاميراته، والنت و"سوشيالاته"!

فلم تكن تلك الأشياء قد غزت مجتمعات بلادنا، ولا عرفناها، ولا عرفت هي طريقها لبيوتنا، كان التليفزيون هو وسيلة الترفيه المتاحة، والنافذة الوحيدة التي نطل من خلالها على العالم، وبرغم هذا، فقد كان تليفزيون بيتنا يغلق على الفور، إذا ما أذاع عامل المسجد المجاور لمنزلنا عبر مكبر الصوت أن أحد سكان الحي قد مات، كانت أمي تهرع على الفور إلى نزع الفيشة من مقبس الكهرباء، وإحضار الغطاء القماش لتلبسه للتليفزيون، الذي سيظل مغلقاً لأسبوع كامل على الأقل حداداً على روح المتوفى "الذي لا نعرفه" وتضامناً مع ذويه "الذين هم ليسوا من أقاربنا"، وإذا أفصحتُ عن غضبي أو أبديت اعتراضي كانت تزجرني وتجيبني بعبارة لم أكن أفهما عندما كنت صغيراً، ولا اقتنعت بها بعد أن صرت كبيرا:

«بس اسكت خالص ما تتكلمش، إنت عاوز الناس ياكلوا وشنا"؟!

كان هذا في زماننا، هكذا كنا، وكان هذا ما وجدنا عليه آباءنا، فلماذا تبدل حالنا؟

ما الذي تغير فينا، وماذا حدث لنا وبنا؟

ساءني ما شاهدته بالأمس من لقطات مصورة لمراسم نقل ودفن جثمان السيدة دلال عبدالعزيز "الله يرحمها" ويلهم أهلها الصبر والسلوان .

اللقطات التي شاهدتها، وبصرف النظر عن رأيي الشخصي فيها أو تقييمي الذاتي لها، كانت تدلل بوضوح على افتقارنا لقيمة كبيرة غابت مؤخراً عن مجتمعنا، بعد أن ظلت لعقود تمسك بزمام أمورنا، وتضبط بوصلة حياتنا، القيمة التي غابت عنا كان اسمها «المعايير»!

والمعايير لمن لا يعرفها هي مجموعة الأسس الحاكمة التي يقوم عليها كل شيء، أو التي ينبغي أن يلتزم بها القائمون على أمر أي شىء!

إنني بعد الذي شاهدته بالأمس، وما بت أشاهده كثيراً هذه الأيام، لا يخالجني شك في أن "الست معايير" قد حزمت أمتعتها ورحلت عن مجتمعنا، منذ أن أصابته لعنة النت والتريند "الله يخربيت التريند" الذي أفسد علينا حياتنا، وأزاح عنها ستر الخصوصية التي كفلها لنا الدستور، الذي تنص المادة «٥٧» فيه على أن للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، كما يلزمنا ديننا الحنيف بعدم الاعتداء على الآخرين مصداقاً لقول ربنا سبحانه: "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" صدق الله العظيم، والاعتداء يا سادتنا هو إلحاق الضرر بالآخرين من غير وجه حق، وهنا ينبغي علىّ أن أسأل:

أوليس في تصوير شخص ما في موقف يألم له، أو إظهاره على هيئة لا يحبها، أو صورة لا يقبلها إلحاق للضرر به؟!

وبالابتعاد قليلاً عن الحديث في الأحكام الشرعية أو القوانين الوضعية، مع الاحترام الكامل لكليهما، ولكن لنأخذ الموضوع من منظور إنساني ...

هل سأل المصورون أنفسهم ماذا سيكون شعور ابنتيّ الفقيدة في كل مرة ستشاهدان فيها تلك الفيديوهات؟

وكيف سيتجدد إحساسهما بالحزن على فقد الأم والأب من قبلها، مع كل مرة لمشاهدة جديدة مهما مر أو طال الزمن؟!

ولو نظرنا من منظور عملي، خالٍ تماماً من المشاعر..

فما هي الفائدة العائدة على المشاهدين من مشاهدة عمارة سكنية كانت تقيم فيها فنانة توفاها الله؟!

ما هي الفائدة من تصوير مبنى مشرحة، أو عربة نقل موتى، أو نعش يحمله مشيعون؟!

ماذا سيستفيد المشاهد من لقطات انفعال بعض الفنانين على المصورين؟!

 ماذا سيضيف لهم مشاهدة انهيار الفنانة فلانة، وبكاء الفنانة علانة، أو ركض الفنانة ترتانة هرباً من عدسات الكاميرات؟

هل هي أحداث تاريخية هامة كانت تستوجب التوثيق؟

أما آن الأوان بعد أن نعود إلى رشدنا ونستفيق؟!

رحم الله الفنانة دلال عبدالعزيز التي خرجت من ضيق الدنيا إلى اتساع رحمة الله الرحيم .