رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخنا وأسماء الشوارع «1-2»

 

ظهر فى العقود الأخيرة العديد من الدراسات الحديثة حول الذاكرة الجماعية للشعوب، ويعالج بعض هذه الدراسات نظرة الشعوب إلى تاريخها، وماذا يعلُق بهذه الذاكرة الجماعية من أحداثٍ وطنية، ومن هنا تركز هذه الدراسات على نقطة قد تبدو عادية، ولكنها فى حقيقة الأمر غاية فى الأهمية فيما يتعلق بتكون الذاكرة الوطنية ومتغيراتها عبر العهود السياسية المختلفة، ونقصد هنا مسميات الشوارع والميادين.

والحق أن تطبيق هذه الدراسات على الحالة المصرية سيساعدنا كثيرًا فى بيان نظرتنا إلى تاريخنا، وحال الذاكرة الجماعية المصرية.

ولقد شغلنى هذا اللون من الدراسة منذ فترة، وأتمنى أن تصدر قريبًا دراستى فى هذا الشأن، ومن الملاحظات المثيرة التى خرجتُ بها من هذه الدراسة أن هناك قدرًا من العشوائية، وربما السذاجة، فى اختيار أسماء الشوارع، فما زلت حتى الآن لا أفهم كيف تُطلق أمة أسماء الغزاة على شوارعها؟! ولا أدرى فى عهد أى حكومة تم إطلاق اسم «قمبيز» على أحد شوارع القاهرة؟، وقمبيز هذا هو القائد الفارسى الذى غزا مصر فى التاريخ القديم.. ما المبرر التاريخى لهذا الاختيار والاحتفاء؟ هل أعجب الاسم أحد المسئولين عندما سمع به وأطلقه على أحد الشوارع؟!

والشىء نفسه ينطبق على إطلاق اسم السلطان سليم الأول العثمانى- الذى ضم مصر إلى الدولة العثمانية- على أحد شوارع حى الزيتون، لا أدرى ما المبرر التاريخى للاحتفاء بهذا الأمر؟! والأكثر غرابة أن يُطلَق اسم السلطان طومان باى المملوكى على الشارع المجاور لشارع سليم الأول، ومعلوم أن السلطان سليم قام بإعدام طومان باى على باب زويلة بعد هزيمة الجيش المملوكى فى معركة الريدانية عام ١٥١٧، وهكذا تجاور اسما القاتل والمقتول معًا على شارعين من أهم شوارع حى الزيتون، ولا أدرى هل نحتفى بالقاتل أم بالمقتول، أم نصنع لوحة درامية هزلية؟!

ومن الملاحظات الغريبة أيضًا مسألة تغيير مسميات الشوارع مع تغير الأنظمة السياسية، وهى خير مثال على تغييب الذاكرة الوطنية واللعب بالتاريخ.. ولعل حالة ميدان التحرير، هذا الميدان الأشهر فى تاريخنا الحديث والمعاصر، هى الأبرز فى هذا الخصوص، فلا يعرف البعض أن الاسم الأصلى لهذا الميدان كان «ميدان الإسماعيلية» نسبةً إلى الخديو إسماعيل، مؤسس القاهرة الحديثة، وكان من المفترض أن يوضع تمثال له فى هذا الميدان، وبعد ٢٣ يوليو يتغير اسم الميدان إلى ميدان التحرير، والغريب أنه بعد اغتيال أنور السادات تم إطلاق اسم السادات على الميدان، لكن الناس لا تزال حتى الآن تسميه ميدان التحرير.

وربما ينطبق الشىء نفسه على بعض أهم شوارع وسط البلد فى القاهرة، إذ تغير اسم شارع فؤاد إلى شارع ٢٦ يوليو، وفؤاد هذا هو ملك مصر، وبصرف النظر عن الموقف من فؤاد، لكن الناس حتى الآن يطلقون عليه شارع فؤاد.. وعلى النحو نفسه ميدان سليمان باشا، الذى تغير اسمه إلى ميدان طلعت حرب، فما زال الناس يطلقون عليه سليمان باشا، والأخير هو سليمان باشا الفرنساوى الذى كان يُدعى الكولونيل سيـﭪ، ودخل فى خدمة محمد على وأشهر إسلامه وسُمى سليمان، ولعب دورًا كبيرًا فى تأسيس الجيش المصرى، من هنا كان من المهم الإبقاء على اسمه.. أما طلعت حرب فهو بحق رائد الاقتصاد المصرى الحديث، وكان من الأجدى إطلاق اسمه على موقع آخر.

الشىء نفسه ينطبق أيضًا على ما نسميه اليوم ميدان الأوبرا بالعتبة، رغم حريق الأوبرا وزوالها، وكان يُعرَف هذا الميدان باسم البطل الفاتح إبراهيم باشا، قائد الجيش المصرى الذى حارب فى السودان والجزيرة العربية وبلاد الشام والأناضول، وهو القائد المُحب لجنوده المصريين، والذى كان يتحدث معهم باللغة العربية، وتم تغيير اسم هذا الميدان من ميدان إبراهيم باشا، حيث يقف تمثاله الشهير «إبراهيم باشا أبو أصبع»، إلى ميدان الأوبرا.

ولم تسلم حفيدة إبراهيم باشا من الأمر نفسه، وأقصد الأميرة فاطمة إسماعيل؛ إذ تم إطلاق اسمها على الشارع المؤدى إلى جامعة القاهرة تخليدًا لدورها المهم فى تأسيس جامعة القاهرة، وتبرعها بما تملك لصالح الجامعة، وتم تغييره إلى شارع الدقى.

حتى عبدالناصر، البطل الزعيم والكاريزما، لم يسلم من مسألة تغيير الأسماء، لكن هذه المرة اسم مبنى كبير، فلقد تم إطلاق اسمه على الاستاد الكبير الذى سُمى فى البداية «استاد ناصر»، ولكن، ومع تغير النظام السياسى، سرعان ما تغير الاسم إلى «استاد القاهرة»! 

وفى المقال المقبل نستكمل الملاحظات حول تغيير المسميات، وأثر ذلك على الذاكرة الوطنية المصرية.