رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرب على الفقر

فى أعقاب ثورة يوليو ١٩٥٢ تعايشت مصر فكريًا مع مستحدث تنويرى بدا جديدًا على المجتمع، وهو الثالوث القاتل، وأضلاعه الفقر والجهل والمرض، وبنيت نظرية الثالوث على أن العناصر الثلاثة تؤسس لمهلكة الشعب ووقف التنمية، إلا أن الدراسات الاجتماعية والحصر السكانى فى مجال الصحة وعلم الاجتماع خرجت علينا بمعادلة جديدة تشرح العلاقة بين السببية والنتائج، وهى أن الجهل والمرض هما عنصرا السببية فى إحداث الفقر، ومن ثم فقد استبعد الفقر من بين أسباب المهلكة، وبات يقرأ على أنه نتيجة للجهل والمرض.

فى الحقيقة، هذا التحول الدقيق فى فهم الفكرة أسهم بشكل قاطع فى ضخ جهود الإصلاح فى خانتى الجهل والمرض عوضًا عن ضخ الدعم والأموال فى خانة الفقر لإصلاح العوز.

فى العقدين الماضيين، شهدت مصر تحولًا نوعيًا فى مفهوم الدعم المقدم للمواطن فى الخبز والوقود والتعليم والصحة وخدمات الإصلاح الاقتصادى ودعم التنمية. بالطبع، لم يكن «فطام» الشعب من الدعم أمرًا سهلًا، فقد كانت التجرية الأولى لرفع الدعم عن بعض السلع فى يناير ١٩٧٧، وجاءت النتائج مريرة، جعلت الحكومة تقيس بدقة ردود الفعل الجماهيرى قبل رفع الدعم فى المرات اللاحقة ومع الحكومات المتعاقبة التى تيقنت من ضرورة استحداث خطاب الفطام بشكل عقلانى درءًا للغضب الشعبى. 

بداية، دعونا نتعرف على تعريف الفقر، وهو حالة العوز النسبى التى تصيب الفرد؛ فيتعذر إشباع مطالبه، وعادة ما يختزل مفهوم الفقر فى العوز المالى، وهو تعريف غير دقيق؛ لأن الفقر قد لا يقف عند قصور الموارد، بل من المحتمل كفاية الموارد مع تعطل القدرة على إتيان المنفعة، أو مثل الجهل المعرفى أو فقر الخبرة.

لذلك، من الأنسب تعريف الفقر بأنه حالة من العوز يصعب معها إشباع الحاجة، ومن ثم فهناك فقر المال، وفقر الصحة، والفقر المعرفى والفقر العقلى إلى آخره من قوائم العوز.

ولإتمام بناء هذا الكيان يلزم بالطبع وجود «الفقير» وهو العائل الوسيط للفقر، ولعل أهم أسباب الإخفاق فى علاج الفقر فى بعض الدول هو عدم التفرقة بين الفقر والفقير، فتذهب السياسات الخاطئة إلى ضخ المعونات والأموال والدعم العينى والنقدى للفقراء زعمًا بأن سد العوز سوف يحل المشكلة.

وفق هذا المنهج الخاطئ، يستمر الفقير فى انتظار الدعم ويبنى طموحه وأحلامه على هذا الأمل الغيبى، بينما أسباب الفقر كظاهرة لم يتم تشخيصها، ومن ثم لا يمكن علاجها، ولعل أشهر الظواهر فى هذا الشأن هى ظاهرة تحرير الغارمين والغارمات وفك أسرهم بمساعدات وتبرعات من الأفراد والجمعيات وأحيانًا من الحكومات، فتتوالى دفعات الملتحقين بالسجون بعد إطلاق سراح السابقين.

الفقر صناعة ذاتية يؤتيها الفقير كسلًا منذ نعومة أظافره، فهو لم يصمد أمام قسوة التعليم وسهر الليالى وصداع التحصيل الدراسى، فتجده يتسرب من التعليم بكل أريحية، كما هو مشهود فى الشارع المصرى من قبل الصبية العاملين على «التكاتك»، لانتفاء الدافعية تجاه التعليم، ووجود البديل الأسهل، وغير المرشد، وهو التكسب بلا حاجة للتعليم أو التدريب، وبالطبع ترتبط هذه الظاهرة بارتياد المقاهى والتدخين، وهى ظاهرة تمثل للطفل الحدث نوعًا من المكافأة لقدرته على الكسب، ومن ثم يمنح نفسه وسام الرجولة.

لم تتضمن السياسات التعليمية عبر العقود الخمسة الماضية طرحًا لمعنى النجاح، ولا مفهوم الثراء، ولا صياغة الأهداف، والاكتفاء بحصص يوزعها القدر وتعظيم معانى الحظ والصدفة النافعة، وتفاقمت الأزمة من خلال الإعلام المبنى على الفوز فى المسابقات باستدعاء ذلك مرة أخرى، واعتماد «اكشط واربح» كأداة للربح. 

فى الحقيقة شاركت الثقافة الدينية القائمة على الاجتهاد الفقهى غير المدروس فى صناعة الأمل غير المرشّد، وأصبح لفظ الرزق بريقًا للأعين يتأرجح بين الحظ تارة والاستغراق فى التضرع بالدعاء عوضًا عن العمل تارة أخرى. 

لا شك أن العنصر المؤسس للفقر وغياب الرفاهية المجتمعية هو ضآلة الناتج القومى الناتج عن مشاركات الأفراد فى الناتج المحلى مقارنة بالمجتمعات التى تنعم بالرفاهية وارتفاع مستوى المعيشة.

الملاحظ لدى مناقشة أسباب الفقر مع الشباب، الذى أصيب بالفتور الإنتاجى، أنه يتذرع بضعف الأجور، ومن ثم انتفاء الدافعية للإنتاج، وما يتبع ذلك من تدنى الإنتاجية والربحية وتظل الحلقة المفرغة قائمة.

لم يتطرق القائمون على سياسات تشغيل الشباب، أو المنظمون لبرامج التوظيف لشرح الفرق بين «الأجر» و«المرتب»، فبينما المرتب «الماهية» هى المقابل النقدى الذى يتم تقريره سلفًا مقابل القيام بمهام الوظيفة، وهو مبلغ ثابت، فوظيفة حارس الأمن «مثلًا» يقابلها ٢٠٠٠ جنيه فى الشهر لأى شخص يشغلها مهما كانت قدراته وتفوقه.

وعلى الطرف الآخر، نجد أن الأجر هو المقابل الذى تحدده الخبرة والكفاءة والندرة والأداء، فخبير ترميم التراثيات «مثلًا» ربما يتقاضى عشرات الآلاف.

تروج الثقافة الشعبية أحيانًا لبعض المفاهيم المغلوطة التى تخدر مساعى الفقراء وتبرر لهم الخروج عن دائرة اللوم وانتفاء الكسل وتطوير الذات كأسباب للفقر، مثل مقولة «وراء كل فقير لص أو فاسد أو منكر زكاة»، وبالطبع هذا المفهوم يتنافى قطعيًا مع عدالة السماء، فلا الرزق له مجموع جبرى ثابت متى اغتنى منه أحد يفلس الآخر، كما أن مكاسب العباد رهن الاقتسام بينهم.

إذن، الفقر كائن حى غذاؤه الدعم وسماده العطف، وسيكبر ويتغول ويقتلك عندما يشتد ساعده، وهى الخبرة التى عرفها العالم تحت مسمى «ثورة الخبز».