رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عيون الأحوال.. وحكاية فأر كتاب التجليات

جريدة الدستور

دفتر أحوال

صراخ أقعد نيام منتصف الليل، كانت كلاب الشوارع الضالة تنهش جسد الطفل الضال، بقيت أصداء صرخاته تتردد كل فجر.

قضمًا نهشته المسعورات، غاب كما أراد، مراهق يتيم فى عمر السادسة عشرة، ترك المدرسة، بعد وفاة أمه، ينام فى الطرقات وتحت حواف الجسور.

خاف الرجوع إلى البيت، شبح العجوز المقتولة، عارية تمامًا، جلد أعجف، لا حياة ولا إغراء، قتلوها وقد اغتصبت من قُبل ومن دُبر، اليتيم شاهد جسدها وتاه.. تاه، لاحق الأشباح، تحسس بشرة أمه تنزف، طار فوق شجرة الصفصاف ونام. 

يبدأ نهاره قبل هجوم سيارة جمع القمامة وفضلات العالم.

يجمع فتات الخبز، يتذكر رغيف الطابون الساخن وحضن أمه التى قتلت غدرًا، بعد وفاة الشيخ عمر البكر فى سدة منبر الجامع، الذى يحل فيه إمامًا بالتناوب مع رئيس البلدية الشيخ تركى الساير.

كان الشيخ البكر وصيًا على أملاك العجوز، يداعبها خفية، تنهره ويحرض عليها كلابه. 

يلتقط بقايا قطع دجاج مقلى، بطاطا، خضار معفن، وشحوم يلتهمها وينام، تدغدغه آخر أحلام الفقراء ، أن يجد الفقير ملابس للشتاء المنذر قدومه تلك اللسعات الباردة.

عندما هاجمته الكلاب الضالة، نثر لها ما جمع من فضلات.. جالت صور أمه فى مذبحها، جسدها المسباح، ثدياها اللتان لم يلمسهما مخلوق بعد ترملها على صبى عنيد. 

تبادلت عيناه النظر بشراسة مع الكلاب التى تتجمع قادمة من وراء الجبال، نثر عظام الدجاج.               

صرخ عندما نهشت يده اليمنى، ثم ارتطم على قفاه وتناسلت الكلاب مثل الجراد.                            

مات عمر، ناظرًا فى حبل غسيل معلق بين الحلم وتلك الأضواء المبهرة فى شقق لا تعرف النوم.

فى دفتر أحوال الميت كتبوا، طفل ضال نهشته كلاب ضالة، يدفن على حساب الجمعيات الخيرية.

 

خرزة ملونة.. وأحيانًا زرقاء

يراها كل يوم، يتحدث معها، يُقبلها، ينحاز إلى لمعة الخرز والحجارة الكريمة.

كان يسمع فى تليفزيونات العصر الماضى، جمهور الراقصات ينهج بالمتعة وتخرج الأمثال، والمدح والآهات. 

- خرزا زرقاااا ف عين اللى ميصليشى ع النبييييى.         

يصله الصوت، يحلم بالخرزة الملونة.. وأحيانًا يتلمسها، يقول فى صباح اليوم التالى: رأيتها.. زرقاء، تسر الناظرين، إطارها من ريش وحرير، قريبة من كوكب درى يتراقص فوق مفترق يماماته شعاع محير، أزرق يشتعل بالسريالية، يستمع، الأصوات قريبة. 

ينتهى من بحلقَة دائمة، يحس بإحمرار قاتل وسط عينيه، يقف متأهبًا لما فى وصلة إحياء الرقص من متعة، فهو يتذكر موعدها على الشاشة الفضية الساحرة.

.. وإذا جاد عليه الحلم، يتجلى مداعبًا نقطة ساخنة، ينام على ريش نعام.

يتسلق شجرة جذورها معكوسة، لينتحر معلقًا على شجرة، عاريًا وحيدًا.           

علقت وكالات الأنباء على من تعلق فوق شجرة، جذرها طيف يهرب باتجاه السماء، كانت مؤخرته تعج بما لوثها من أحمر شفاه، أزرق الجسم، بارد الوصال. 

وجدوا تلك الصورة، نشروها، فقد اتهمه الزعيم بأنه سرق الخرزة «...»، ذلك ما تناقله زهران وخلان وسفلة ورعان الشيخ الزعيم المحتقن دائمًا، عاش العذارى الأطفال، وقالوا إنهم وجدوا معه، حجرًا، الخرزة الزرقاء، وعطر بهارات قوى، وبقايا سجائر وفياغرا، ورسالة تؤكد أنه ما زال على قيد الحياة.

.. فى حوض لازوردى مع عشيقته فى ألوانها المغربية، دم وليمون، وتراب نهرى، وسائل منوى يحتفظ بها مع عطور برية، وزفرة الزعيم القاتل. 

 

فأر الكتب الرديئة 

بعد وقت من مداعبات سخيفة، تمايلت، ثعبانها فتق جلدها العفن، قاومها. 

اشتد غضبها، قالت له إنها شاهدت فئرانًا، يلتهم كبيرهم «...» الكتب. صعق، تفقد ستائر غرفته البائسة، المفتاح يغلق ولا أى مشكلة.

أبهرته، فشل معها عندما أكدت أنها تشاهد فأرًا يلتهم الكتب الرديئة.

قال لها ذات مرة:         

- كيف وأين ومتى؟

تمايل ثعبانها عن حلمات تنثر السم، يغضب مشدودًا إلى السرير.. ونظرت فى سهاد عينيه، السواد الضاغط تحت الجفون، هرش شعره الأشعث، بقايا ملونة، تبعثر زخارف الفراش.. ضحكت وقالت له: هيا بنا نذهب لقطاف البرتقال.

.. خاف رفيقتها، لكنها أمسكت به من منكبيه.. 

تذكر أنه لا بد أن يعمل، لينام مع سحرها، نارها فى غرفة تعج بالكتب والمجلات الرديئة.. وثلة من الأصدقاء حول مأدبة الفأر، ليضحك على مكابدات توم وجيرى، يلاحق نداء المرأة الذاهبة إلى رزقها، اغتاله عطر البرتقال فى ساعة الفجر، نسى حديث الفئران.

.. كان عطرها، وأنفاسها تحت كومة من اللحم والملابس الرديئة. 

بين قطاف وآخر، كان يبعثر برتقالات غنية بالشذى، يتذكر أنه شاهد الفأر يدخل مجلد حكايات ألف ليلة وليلة، يقضم وحيدًا ما تبقى من حكاية القصة المثيرة، التى كانت تتعبه، يدور فى سحرها الباتع، يندهش معها كمثل طبال يتبع راقصة، يدور وتدور، يراقب شهريار ويتغامز مع شهرزاد، لم تره ولن تقف على حروف الكتاب الذى يقضم بهجته الفأر، فقد داعب عضوه، وقت أحس بفراغ الكتاب المقروض! كان يتابع إحساسك مع حكاية الجنى الذى يحلب أثداء البقرة الحمراء، فنزلت عليه مزامير وحشية، كان الفأر يتبادل هرش البقر، لكن الفأر أخفى الحروف الذهبية، مارس عادته وهى تراقب فتات الحكايات التى عاث سوءتها الفأر.

كتبت له: اليوم، الساعة ٩:٠٧ ص                                                          

لقد أرسلت اليوم، فى تمام الساعة ٩:٠٧ ص، بقايا كتبك التى تعفنت، وتركت الفئران تنهش صورك القديمة، وما بينها من رسائل تلوثت أحبارها من رطوبة شتاء البراكية الطويل، وبول البقرة الحمراء. 

كتب لها: «المرفق غير متوفر، هل شاهدته العصابة؟».