رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اصنع عدوك بنفسك

قد يبدو العنوان لافتًا، ولكن صناعة العداء هى مستحدث سياسى دخل القاموس السياسى للعالم قبل أربعة عقود، ولتوضيح الأمر فالمعنى الكامن فى هذا الشأن هو أن تصنع عدوك بنفسك عوضًا عن أن يُفرض عليك عدو لا علم لك بقدراته، والحديث بالطبع على مستوى الدول فرادى أو مجتمعة فى حزمة أمم، وقبل أن تعتريك الدهشة حول جدوى تصنيع العداء، عليك أن تعرف أولًا تعريف العدو.

وفق القاموس السياسى، العدو هو جملة المهددات لأمن واستقرار أى دولة، ولم تعد فكرة العدو تقف عند القراءة التقليدية التى درسناها فى كتب التاريخ ومناهج القومية والوطنية، فثمّة أنواع عديدة من الأعداء، فهناك العدو الاقتصادى، الذى يناطحك بسياسات تضر بمصالحك أو تؤثر على حصتك التنافسية، مثل الصراع اليابانى الأمريكى فى الاستحواذ على سوق السيارات، وهناك العدو السياسى الذى يفتت حصة الدولة فى ميزان القوة، مثل الصراع الأمريكى الروسى فى مجال السياسة الدولية فى محاولة لتسويق النفوذ وملكات القوة، وهناك العدو الحربى الذى لا يتحاور بالكلمة بل بمقذوف البارود، وهناك العدو الثقافى الذى دعت إلى ساحته عدة دول، مثل الإسلاموفوبيا التى نُصبت عدوًا لعدة دول، بل عدوًا لأمم كثيرة.

وبالطبع تتعدد أوصاف العداء، لتشمل العدو الأيديولوجى، مثل الصراع العربى مع الصهيونية، وكذلك العدو الثقافى والعدو التقنى إلى قائمة ممتدة من التصنيفات الخلافية.

فى عام ١٩٤٥، دمرت أمريكا مدينتى هيروشيما وناجازاكى بالقنبلة الذرية، ومرت السنون وانشغل اليابانيون بتنمية بلادهم والتفوق على الغول الأمريكى، وفرغوا الحقد والكراهية من أذهان أبنائهم، وقاموا بتنحية هذه القطعة من التاريخ؛ حتى لا تظل الأجيال المتتابعة مشغولة بتصفية الحسابات، وعوضًا عن ذلك تفرغوا للتعليم والبحث العلمى وتطبيقات التقنية فى التصنيع.

فى الحقيقة، لم يكن توجه اليابان فى نزع الكراهية مصادفة، بل أجمع عليه اليابانيون بعد معاناة أجيال، وبعد فهم حسابات الربح والخسارة عند العمل على تفعيل الكراهية أو تفعيل البناء والتنمية، وما ساعد على تبنى هذه الثقافة هو خلو الثقافة اليابانية من الإملاءات العقائدية، فلا هم يعرفون الجهاد، وليس من بين مفردات قاموس الحياة لديهم لفظ الكفاح ولا الثأر ولا كرامة الانتقام، وعوضًا عن كل هذا فهم إلههم العلم ورسولهم الروبوت، وأصح كتاب على أرفف مكتباتهم هو صحيح الفيزياء وفِقه النانو تكنولوجى وتفسير الجينوم.

هذه هى التجربة اليابانية فى التعليم، وكنت أتمنى لدى نقل النموذج اليابانى فى التعليم والتربية أن تكون هذه المفاهيم على قمة الخبرة المنقولة.

عندما تراجع محتوى مناهج التاريخ التى تدرس لأطفالنا، تجدها تعيد وتزيد فى سرد سيرة عدونا الأوحد وهو إسرائيل، وأن إنجلترا وفرنسا كانتا أعداءنا، بل والتخطيط لتنصيب عدو يلهث بفكرة الخلافة، وسقط سهوًا من مناهج أطفالنا أن إسرائيل كانت عدوًا حربيًا أيام الحروب، وانتهت المعركة وانكمش العداء ليصبح سياسيًا بعد نصر أكتوبر، وبعد معاهدة السلام انكمش أكثر ليصبح أقل اتساعًا ويكاد يصبح حكرًا على الاختلاف الأيديولوجى. 

تحت الجمود الفكرى، ظللنا مشغولين بقتلانا من أطفال مدرسة بحر البقر عندما قتلهم العدو الإسرائيلى، ونسينا أن وزراء النقل عندنا قتلوا عشرة أضعاف هذا العدد فى حوادث قطارات وباصات المدارس، ونسينا أن فساد المحليات قتل تحت الأنقاض خمسين ضعفًا قدر من قتلوا فى الاعتداء الثلاثى على مدن القناة، ونسينا أن مسرحية عبثية قتلت جيلًا بأكمله ونزعت منه هوية مصر الأخلاقية وجعلت العلم يكال «بالبتنجان».

عندما تصنع عدوك بنفسك، فأنت تضمن فهم وقراءة عناصر القوة فى خصمك، وبالتالى تستعد لمواجهتها.

والآن، وبعدما تبلورت الفكرة دعونا نستبدل لفظ «افهم عدوك» بـ«اصنع عدوك»، فالهدف ليس صناعة تمثال حجرى لتصب عليه غضبك وتصوب إليه سهامك، وإنما انتقاء إحدى المعضلات الحياتية وتشخيصها وفهمها وتدبير سبل العلاج.

عندما تصر على البقاء خلف جدران المنطق وتقف بتاريخك عند أعداء تغيرت هويتهم ولم يعودوا موجودين كيوم تركتهم، فالأحرى ألا تتعامل بالتقويم الميلادى، فهو يحترم التقادم ويضيف كل يوم رقمًا جديدًا لحسابات الزمان، أما أنت فالأحرى بك أن ترتضى الجمود واتباع تقويم اليوم الواحد، لأن تقويم الـ٣٦٥ يومًا كبير عليك وأنت متجمد.

آن الأوان ليجتمع خبراء التربية والتعليم والبحث العلمى، وخبراء علم الاجتماع والطب والسياسة، وما أكثرهم لتعديل قاموس المصطلحات الوطنية وإعادة صياغة الفهم الصحيح لتاريخ الأجداد، فالتاريخ ليس سردًا لأحداث التاريخ، بل هو قراءة فلسفية للحدث ومبرراته وكيف تمت معالجته، وخذ مثالًا الحملة الفرنسية وكيف تتم روايتها عبر كتب التاريخ، ستجد أنها تواريخ وأرقام ومقابلها ملخص الحدث، مثل ما تزخر به الكتب حول حجر رشيد وأنه تم اكتشافه سنة ١٧٩٩، بينما المفترض التركيز على مفهوم الحملات عبر التاريخ، والفرق بين الحملة والاستعمار والاحتلال والغزو.

لمن لا يعرف، لدينا فى مصر قرابة تسعين معهدًا بحثيًا متخصصًا، كل منها فى شأن أكاديمى واحد، وخذ بعض الأمثلة:

المركز القومى للبحوث.

المعهد القومى للبحوث الجنائية.

معهد الأورام، وهو فى الأصل معهد تعليمى بحثى. 

معهد طب المناطق الحارة.

معهد بحوث البناء.

المعهد القومى لعلوم البحار والمصايد.

معهد تيودور بلهارس للأبحاث.

معهد بحوث أمراض العيون.

معهد بحوث البترول.

مركز بحوث وتطوير الفلزات.

آن الأوان لرصد العدو الحقيقى للتنمية فى مصر وهو الفجوة الواسعة بين التشخيص والعلاج.