رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشروع الإخوان هو الخصم الأكبر للإسلام

أعتقد أن معظم شعوب أمتنا قد وقع فى الحيرة من تصرفات الإخوان بعد أن أسقطتهم الشعوب، فقد بان للجميع نهمهم للقتال والقتل والدموية والتخريب، من أين جاء الإخوان بكل هذا العنف؟ ولماذا يفعلون ما يفعلونه؟ وهل من الدين أن تحارب الجماعة وطنها؟ وهل تلك الدموية لها علاقة بالإسلام؟ لنا أن نقسم جميعًا بأن الإسلام برىء من تلك الدموية وذلك العنف، فما كانت دعوة الإسلام دعوة عنف، ولكنها دعوة سلام وأمان، وما أمرنا الله سبحانه وتعالى بمحاربة الشعوب حتى تدخل فى الإسلام، ولكنه أمرنا فقط بالدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن الإخوان وضعوا مشروعًا مشوهًا وأطلقوا عليه «الإسلام»، وما هو الإسلام، ولا علاقة له من قريب أو بعيد، إذ هو أحد مشاريع الخوارج الذين تنكبوا الطريق، وأصبح هذا المشروع المسخ هو الذى تواتر الباحثون على تسميته بالإسلام السياسى.

نعم جماعة الإخوان هى التى وضعت الصياغة العصرية لمشروع الإسلام السياسى، ذلك المشروع الذى قدَّم أكبر خدمة للصهاينة، ولم ينتبه هؤلاء إلى أن الإسلام دينٌ وليس مشروعًا، فالدين مُنَزّل من الله لعباده، والمشروع هو إنتاج البشر، وما كان الإسلام مشروعًا بشريًا أبدًا، ولكن عبر سنوات طويلة دافعت فيها الجماعة عن هذا المشروع، وخدعت به الآلاف، بل الملايين من المسلمين، واستطاعت بالفعل أن تصل إلى الحكم فى مصر لمدة عام، إلا أن وصولها للحكم كان هو التوقيع النهائى منها على فشل مشروع الإسلام السياسى الذى قادته، إذ كانت الشعارات التى رفعها أصحاب هذا المشروع ودغدغة مشاعر الشباب بها، هى أنهم يسعون إلى تديين السياسة وتخليصها من أدرانها، وتحديد مسارات أخلاقية لها، ولكن العكس هو الذى حدث، فقد قاموا بتسييس الدين، وتحويله إلى دين قومى لفئة من الناس، هو أمر مشابه لفكرة اليهود عن الإلوهية، فالله عند اليهود هو إله قومى، لهم وحدهم دون غيرهم، سيدخلهم وحدهم الجنة، وقد خلق باقى البشر لخدمة اليهود، وهى فكرة عنصرية ضخمتها الصهيونية، والصهيونية كما نعلم هى بمثابة «اليهودية السياسية» أو الحزب السياسى للدين اليهودى، وقد أساء الصهاينة لليهودية كما أساء مشروع الإسلام السياسى للإسلام، فعند مشروع الإسلام السياسى منذ عصور طويلة هناك فكرة الفرقة الناجية، والفرقة الناجية هى فكرة سياسية بامتياز تمت تغطيتها بثوب إسلامى وتفصيل حديث نسبوه للنبى بشأنها، واستخدمت كل الفرق الإسلامية فكرة الفرقة الناجية، لتثبت أنها هى التى ستنجو من النار دون غيرها، ليس دون غيرها من الأديان الأخرى، ولكن الفرقة الناجية من بين المسلمين الذين سيكونون وقودًا للنار! وكأن الله خلق الخلق كلهم للنار وخصص الجنة لفرقة بعينها، فى زمن بعينه.

وقد توغل هؤلاء فى دمج بعض الأفكار السياسية بالدين، ودمج بعض التجارب الإنسانية للمسلمين الأوائل فى الدين نفسه، مع أن تجاربهم فى الحكم والسياسة كانت محض تجارب بشرية، وقد كتبتُ من قبل فى أحد كتبى أن كل فرق الإسلام السياسى زعمت أنها ستُصلح السياسة بالدين، فأفسدت دينها بالسياسة، ثم أفسدت السياسة بمفاهيم التقية، والضرورات تبيح المحظورات، والكذب، والتخوين، والتشويه، والتكفير، وقد كان من أسباب هذا الفشل عدة أشياء، أولها أنها اكتفت بالشعارات الدينية التى تؤثر فى المشاعر، دون أن تقدم مشروعًا سياسيًا متكاملًا قابلًا للتطبيق ويتفق مع متطلبات العصر، وثانيها أنها استخدمت بعض القواعد الفقهية فى مجال السياسة وتوسعت فى استخدامها بشكل أساء للدين، وأفسد السياسة، وثالثها أنها نظرت باستعلاء للآخرين وزعمت أنها تمتلك الحقيقة المقدسة، والسياسة ليس فيها حقيقة مقدسة، ورابعها أنها انغلقت على نفسها ورفضت الانفتاح على القوى السياسية المختلفة، وخامسها أنها آمنت بالديمقراطية بشكل وقتى إلى أن وصلت للحكم، ثم انقلبت على مفاهيم الديمقراطية بعد ذلك، وسادسها أنها أعادت إنتاج الفقه السياسى القديم فى عصور الإسلام الأولى وأرادت أن تحكم به الواقع الحالى، رغم اختلاف الزمان والمكان وحدوث تطورات غيرت الدنيا كلها.

كما أننى لا أتفق مع القول بأنها تأرجحت بين تحقيق متطلبات العقيدة وتحقيق متطلبات الإدارة السياسية، لأنها فى الحقيقة لم تفكر فى تحقيق متطلبات العقيدة، ولكنها فكرت فقط فى استغلال الدين وقواعده الفقهية لتحقيق مصالحها السياسية، وأضرب مثلًا فى ذلك بقاعدة ذكرتها الآن وهى قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» وهى قاعدة فقهية يتم تطبيقها فى أضيق نطاق، وللحفاظ على الحياة فقط، وهذا هو المفهوم الصحيح للدين، وإلا لأصبح الدين قائمًا على مفهوم «ميكافيلى» الغاية تبرر الوسيلة، وكان من ناتج ذلك أن أصبح كل ما نهى عنه الدين من كذب وتزوير وتزييف وتشويه سمعة الناس وسبهم وغير ذلك هو من المحظورات التى يجوز فعلها، لأنه سيترتب عليها- كما يقولون- ضرورة هى أعلى الضرورات، ألا وهى وصول الإسلام للحكم، وبقاء الإسلام فى الحكم، مع أن الذى سيصل للحكم هو السيد فلان الإخوانى وليس السيد «إسلام» الذى هو دين وليس شخصًا أو جماعة.

ولذلك فإننا نستطيع القول بيقين إن مشروع الإسلام السياسى الذى ولد فى العصر الحديث على يد جماعة الإخوان قد انتهى وذهب إلى متحف التاريخ، وسبب ذلك أنه لم يقدم للأمة ما وعدها به، وتحوَّل إلى مشروع قائم على استخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية، وفكرة استخدام القوة ليست وليدة العصر الحالى عند هذه الجماعات، ولكنها كانت فى ضمير المؤسسين لجماعة الإخوان، فحسن البنا فى رسالة المؤتمر الخامس قال جملة شهيرة هى «ذات يوم سنستخدم القوة فى مواجهة قومنا حين لا يجدى إلا القوة» وبعد ذلك وضع سيد قطب نظريته فى وجوب استخدام القوة لإرغام الناس على تطبيق الإسلام، وفى ذلك يقول «إن الإسلام ليس نظرية ولكنه دين، والدين يجب أن يخضع له الناس لا أن يخضع هو للناس، ولا يمكن أن نستفتى الناس على تطبيق الإسلام، فإن رفضوه فلا مجال إلا القوة لإرغامهم على الانصياع لمنهج الله» وظلت تلك الأفكار حبيسة فى الكتب، محصورة فى ضمائرهم إلى أن خرجت تطبيقات للعنف مع جماعات التكفير والهجرة فى السبعينيات، والجماعة الإسلامية والجهاد، ثم رأينا بعد ذلك التطبيقات العملية الكبرى لمفهوم العنف فى مواجهة المجتمعات مع ثورات الربيع العربى.

وقد ظن البعض أن ما حدث للمشروع الإسلامى وممثلته الكبرى جماعة الإخوان هو مجرد كبوة، لأن هذا المشروع تعرض عبر تاريخه الحديث لأزمات ثم تجاوزها، وهذه مغالطة؛ لأن هذا المشروع فى أزماته القديمة، سواء فى مصر أو سوريا أو تونس أو ليبيا أو العراق كان يدخل فى خصومة مع الأنظمة والحكومات، فظهر بمظهر الضحية التى يتم اضطهادها؛ لأنها تريد الإسلام، فكان أن تعاطفت معه الشعوب، وهذا التعاطف هو الذى أعطى لهذا المشروع أسبقية على المشروعات السياسية الأخرى بعد الأحداث التى أطلق عليها الغرب «الربيع العربى»، ولكن بعد هذا الربيع العربى ومع تجاربهم للحكم فى مصر وتونس، وصراعهم على الحكم فى سوريا وغيرها، وارتمائهم فى أحضان تركيا، وعمالتهم الواضحة لإنجلترا، وتبعيتهم المخزية لقطر، إذا بهم يدخلون فى خصومة ليس مع الأنظمة، ولكن مع الشعوب بحسب أنهم أصبحوا هم الأنظمة، كما أنهم شقوا وحدة بلادهم وفتتوها فى سوريا وليبيا والعراق، وإذا نظرنا حولنا ورأينا رغبة الشعوب فى تجديد الخطاب الدينى، وإلحاحهم على ذلك، فإننا سنرى الوعى الجمعى للشعوب وهو ينتج مشروعًا بديلًا هو مشروع الإسلام الإنسانى الذى يجمع ولا يفرق، ولا يدخل فى خصومة مع أحد وهدفه هو عمران الإنسان، الذى يجب أن يأخذ مكانه فى الحضارة الإنسانية.