رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحكيم باشا».. مغسّل مش ضامن جنة

كان يوم ثلاثاء وقد مضى من شهر جمادى الثانية ٥ أيام ووصلنا إلى يوم ٦ من هذا الشهر عام ١٢٣٢ هجرية «٢٢ أبريل ١٨١٧»، حين نادى منادٍ بصير يقوده مبصر بأسواق مصر وشوارعها وحواريها بأن من كان به أذى من رمد، أو يعانى من مرض الفتاق، أو يرغب فى الجراحة فليذهب إلى «خان» بالموسكى يتشرف باستقبال ٤ من الحكماء الإفرنج «الأجانب»، وأنهم على أتم استعداد لتقديم خدماتهم لمن يحتاج دون مقابل، إلا ثمن الدواء.

عام ١٨١٧ كان قد مر ١٢ عامًا كاملة على حكم الوالى الكبير محمد على باشا لمصر، استتب له فيها أمر الحكم، لكنه خلال هذا العام بالذات كان يعانى حزنًا عميقًا وألمًا ممضًا على وفاة ولده طوسون باشا عن ٢٠ عامًا، ويصف الجبرتى أن الوالى بكاه بكاء مرًا. 

حتى هذا العام لم يكن كلوت بك، رائد تعليم الطب فى مصر، قد ظهر بعد على مسرح الأحداث، فقد تأسست مدرسة الطب فى أبى زعبل على يديه عام ١٩٢٧، أى بعد ١٠ سنوات من هذا العام، وبدأت جهوده فى مواجهة الأوبئة والأمراض المتوطنة فى مصر بدءًا من عام ١٨٣٠، لكن ذلك لا يعنى عدم وجود «حكيم باشا» كان مسئولًا عن الأمور الصحية فى ذلك الوقت.

فالجبرتى يشير فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» إلى أن وزير محمد على ورئيس حكومته فى ذلك الوقت كتخدا «محمد أغا لاظ» استدعى «حكيم باشا» لما وصلت إليه أخبار الأطباء الأجانب الأربعة وانشغال الناس بأمرهم، وإقبال المرضى عليهم من كل حى من أحياء القاهرة، وما تسبب فيه ذلك من تزاحم بحى الموسكى، وسأله عن أمرهم، فأجابه «حكيم باشا» بأنه لا يعرف عن أمرهم شيئًا.

داخل «الخان» الكائن بحى الموسكى كان الأطباء الأجانب الأربعة يجلسون وإلى جوارهم المترجم، وفى الخارج تتلاصق الأجساد المريضة الناحلة الباحثة عن دواء فى طوابير طويلة عريضة.

طريقة عجيبة لاحظها المصريون فى أداء هؤلاء الأطباء، فهم لا يقدمون وصفات أو أحجبة أو يقومون بعمل رُقى كما تعودوا مع المشايخ وحلاقى الصحة- جهة العلاج المعتمدة فى ذلك الوقت- بل يتحسسون جسد المريض بطريقة عجيبة، يسأل الطبيب ويترجم المترجم ويجيب المريض ويقول إنه يشتكى فى عينه أو فى الموضع الفلانى من جسده، فتنطلق يد الطبيب ممسكة بيد المريض لتقيس له النبض، وبعدها يبدأ فى تحسس جسده، بعدها يكتب شيئًا على ورقة، فيلتقطها أحدهم من يد الطبيب ويأخذ المريض إلى حجرة تحتشد فيها زجاجات وقوارير بها سوائل زاهية الألوان، وعليها أسماء باللغات الإفرنجية، يلتقط بعضها من فوق الأرفف، ويعطيها للمريض ويقول له التعليمات الخاصة بتعاطيها.

حتى ذلك الحين لم يكن المصريون يعرفون معنى «الروشتة»، أو الدواء الذى تم تحضيره، لذلك كان عجبهم كبيرًا من هذه الطريقة الجديدة فى العلاج، وزاد عجبهم عندما وجدوا أن هذه الأدوية تحسّن من حالتهم وتزيل أوجاعهم وكأنها السحر.. الأمر كان محل استغراب «الجبرتى» الذى أرّخ للواقعة، وذكر أن الأطباء كانوا يعطون المريض دهانًا أو سفوفًا أو الحب المركب ويطلبون منه قرشًا أو قرشين أو خمسة، وذلك حسب حالة المريض، أما الكشف فمجانى.

اجتذبت طريقة الأطباء الأربعة فى علاج المرضى قطاعًا كبيرًا من المصريين، الذين كانوا يتناقلون فيما بينهم أخبار شفائهم على أيدى الأجانب، فقلدهم آخرون وتكاثر المرضى والمعلولون أمام الخان طالبين الكشف والدواء.. وكان أكثر ما يشد الناس إلى هؤلاء الأطباء «مجانية الكشف» بسبب ما سبق وعانوه مع أطباء أجانب آخرين كانوا يفدون إلى مصر ويضعون اشتراطات عجيبة للعلاج.

يحكى الجبرتى أن الطبيب الأجنبى من هؤلاء لم يكن يتحرك أو ينقل قدمه خطوة واحدة فى الطريق إلى المريض إلا بعد أن يدفع له أهله «ريال فرانسة»، أو أكثر حسب الحال أو المقام، بعدها يحمل الطبيب عدته ويتجه إلى المريض فيجسه ويتحسسه، ثم يعلن لأهله أنه تمكن من التعرف على مرضه وتشخيص علته، ولم يكن أمر الإعلان يخلو من تهويل فى بعض الأحيان، حتى يبرر الطبيب طلباته المالية والتكاليف التى يستوجبها العلاج.

يقول «الجبرتى» نصًا: «ثم يقاول على سعيه فى معالجته بمقدار من الفرانسة إما خمسين أو مائة أو أكثر حسب مقام العليل».. مسألة الطب فى ذلك الزمان كانت مقاولة ليس أكثر، فالطبيب يقاول أهل المريض على علاجه مقابل مبلغ محدد، وكانت طريقة الدفع عجيبة كل العجب، فالمريض مطالب بدفع نصف المقاولة فى البداية، ثم يدفع بعد ذلك مقابلًا لكل زيارة يقوم بها الحكيم، ليعطيه الدواء الذى يعالج علته ويتابع تطور حالته، فإن شفى المريض قبض منه النصف الباقى من «المقاولة»، أما إذا توفى طالب الورثة بباقى ثمن المتابعة، وكذلك ثمن العلاج، وإذا صرخ فيه أهل المريض بأنه مات، يجيبهم- كما يحكى الجبرتى- قائلًا: «إنى لم أضمن أجله، وليس على الطبيب منع الموت ولا تطويل العمر».

تساهل الحكماء أو الأطباء الأربعة مع مرضى المصريين فى ذلك، وعدم قبضهم ثمن الكشف، واكتفاؤهم بتحصيل ثمن الأدوية مقابل قرش أو قرشين أو خمسة، مثّل الأسباب الرئيسية فى الإقبال عليهم من جانب المصريين، فارتبط وجودهم فى البلاد بحالة من الجلبة والصخب نتيجة التزاحم على باب الخان الذى يمارسون فيه شغلتهم، وهو ما أثار كتخدا الوالى، فسأل عنهم «حكيم باشا المحروسة»، فأفاده بأنه لا يعرفهم كما حكيت لك، فما كان من الكتخدا إلا أن استدعاهم.

حضر الأطباء الأريعة أمام الكتخدا، وبدأ فى استجوابهم، لكنهم خلطوا فى الكلام، ولم يفهم منهم شيئًا، فقرر على الفور طردهم من البلاد ونفيهم خارجها، فاستجاب الأربعة، وخرجوا من المحروسة مكتفين بما جمعوه من دراهم، ولم يعلم أحد وجهتهم.

موقف الكتخدا كان عجيبًا، فالأربعة كانوا يراعون ظروف المرضى الاقتصادية ويقبضون منهم ما تيسر دفعه، ولم يكونوا مثل غيرهم من الأطباء الأجانب الذين أبقى عليهم الوالى والكتخدا، ممن ينظرون إلى الطب كمقاولة لا بد أن يدفع المريض مقابلها الكثير إذا شفاه الله، أما إذا توفى فالحساب على الورثة لأن الطبيب «مش مغسّل وضامن جنة».