رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وسياسة النفس الطويل

الصراعات والتحديات المصيرية التى تواجه الدول والأمم فى عالمنا المعاصر، سواء كانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية، أصبحت أكثر تعقيدًا، وكل الملفات تداخلت مع بعضها البعض، وهو ما نطلق عليه «الصراعات الهجينة» التى تتداخل فيها كل الأطراف الدولية والإقليمية، كل حسب ثقله وما يمتلكه من قدرات على تحديد مسار هذه الصراعات لتحقيق مصالحه، فالمصالح متشابكة والفاعلون كُثر فى كل صراع، ومن تتوافق مصالحه مع مصالحك وأهدافك فى ملف ليس بالضرورة أن تتوافق مصالحه معك فى ملف آخر، وهذا ما يدفعنا دائمًا أن نقول إن العلاقات الدولية تبنى دائمًا على المصالح وفقط، وليست هناك صداقة دائمة أو عداوة دائمة.

تتسم هذه الصراعات بأن السياسات والمواقف المعلنة لأطراف الصراع والمؤثرين فيه بشكل أو بآخر لا تعبر بالضرورة عن نواياهم وسياساتهم وأهدافهم الحقيقية، وقد تكون هناك أطراف فاعلة بشكل كبير ومؤثر فى صراع معين لكن لا تجدها جزءًا من التعاطى السياسى والإعلامى على المستوى الدولى.. ولتبسيط الأمر، إذا طالعت على سبيل المثال كل المواقف الإقليمية والدولية تجاه أزمة ليبيا، ستكتشف أن جميع الأطراف اتفقوا على رغبتهم فى رؤية ليبيا مستقرة وموحدة تنعم بالسلام والرخاء!، لكن فى نفس الوقت يخفون أهدافهم الاستراتيجية فى هذا البلد الغنى وتعظيم مكاسبهم من ثروات الغاز والبترول وكعكة الإعمار وصفقات الأسلحة المستقبلية والاستفادة من وضعية ليبيا الجيوستراتيجية فى شمال إفريقيا وعلى البحر الأبيض المتوسط.

هذا التقديم لا يعنى بالضرورة أننا سنشهد استدامة للصراعات القائمة، فاستدامتها ستكون لها تداعيات خطيرة بطرق وأشكال مختلفة على السلام والأمن الدوليين، وهو ما سيدفع الأطراف الأكثر فاعلية فى النهاية إلى حتمية الحسم والحل والوصول لتوافق عبر تقديم تنازلات تضمن لكل طرف تحقيق الحد الأدنى من مصالحه، أو استخدام الطرف الأقوى فى المعادلة، الصراع، كل أدواته السياسية والدبلوماسية والاقتصادية وحتى العسكرية لتحييد أطراف أخرى وطردها خارج طاولة توزيع المكاسب.

قُدّر لمصر، الدولة الأكبر والأقوى فى الشرق الأوسط، أن تكون طرفًا رئيسيًا فى كل صراعات وأزمات الإقليم، خاصة التى تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على أمنها القومى ومجالها الحيوى، ونجحت بشهادة العدو قبل الصديق عبر «سياسة النفس الطويل»، والتوظيف الاحترافى لقدراتها الشاملة، التى عملت على تعظيمها وتنميتها فى السنوات الأخيرة فى حسم الكثير من التحديات الكبيرة التى واجهتها على المستوى الداخلى أو الخارجى، وأن تكون طرفًا لا غنى عنه فعليًا وغير قابل للاستبدال فى أى معادلة جديدة للأمن الإقليمى، وأن تعيد بناء وتشكيل علاقاتها الخارجية على أسس جديدة مع كل القوى الدولية والإقليمية بما يساعدها على الحفاظ على مصالحها القومية ومصالح إقليمها العربى.

كثيرًا ما يقف البعض عاجزًا عن فهم كيف تدار السياسة الخارجية المصرية فى الملفات المختلفة، وتطرح العديد من التساؤلات على المستويات الشعبية وحتى الأكاديمية والبحثية والإعلامية فى محاولة لفك طلاسم تعاطى القاهرة مع ملفات الإقليم المعقدة والمركبة والهجينة التى تتسم، كما ذكرنا فى الأعلى، بتعدد الفاعلين والأطراف، لكن يغيب عن هؤلاء أن مصر عادة لا تحسم صراعاتها بنظرية «الضربة القاضية»، فهى دولة رشيدة وذكية لديها تراكم كبير من الخبرات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية اكتسبتها على مدى أكثر من ٧٠ عامًا من صراعاتها المختلفة ما يساعدها على الحفاظ على مصالحها بأقل الخسائر، وقد تهزم وتنكسر فى أوقات، لكن لا تلبث أن تنهض مرة أخرى وتكون أكثر قوة مما سبق، وتعيد بناء نفسها من جديد لتقوم بالدور الذى قُدّر لها ولا غنى عنه.

الثقة الكبيرة التى يتحدث بها دائمًا الرئيس السيسى حول مآلات التصعيد الإثيوبى فى أزمة سد النهضة، والتأكيد على امتلاك مصر كل القدرات لحماية أمنها المائى، لم تأتِ من فراغ، وليس مجرد طمأنة للشعب المصرى الذى تثق غالبيته بالفعل فى إدارة مؤسسات الدولة للملف، لكن هذه الثقة مدفوعة بوجود سيناريوهات متنوعة للتعامل مع الأزمة وبتقديرات مواقف استراتيجية لتعاطى مختلف الأطراف الإقليمية والدولية مع الملف وقدرات وشكل تداخلات كل طرف وآليات مواجهته.

ملف أزمة السد والصراع على النيل الذى خلقه حكام إثيوبيا لا ينبغى النظر له كملف منفصل عن باقى الملفات والأزمات والصراعات الإقليمية والدولية، فلا تستطيع فصله عن الحرب الأهلية والاقتتال الإثنى والعرقى داخل إثيوبيا، الذى من المتوقع أن يتصاعد وبقوة مرة أخرى وتكون له تداعيات على مستقبل الدولة الإثيوبية بشكلها الحالى مع طموح القوميات الإثيوبية المختلفة فى تقرير مصيرها، ولا يمكن عزله عن التطورات الداخلية السياسية فى السودان والصراع الناعم بين المكون العسكرى والمدنى، ولا الأزمة الحدودية حول منطقة الفشقة بين إثيوبيا والسودان، ومستقبل التطبيع السودانى الإسرائيلى، كما لا يمكن عزله عن الصراع على النفوذ بين أمريكا والصين وروسيا فى منطقة القرن الإفريقى، ولا يمكن فصله عن الرغبة الروسية فى إنشاء قاعدة عسكرية على سواحل السودان، التى تراجعت بضغوط أمريكية، ولا يمكن فصله عن مآلات مستقبل الحكم فى إريتريا بعد تحالف «أفورقى» مع «أبى أحمد» فى محاربة جبهة تحرير شعب تيجراى، ولا عزله عن استراتيجية التطويق المصرية الأمنية والعسكرية والاقتصادية لإثيوبيا بتحالفات واستراتيجيات تعاون مع دول شرق إفريقيا، ولا ملفات الشرق الأوسط الأخرى كملف ليبيا والصراع الفلسطينى الإسرائيلى وملف إيران النووى وأمن الخليج والبحر الأحمر وغيرها.

تعى مؤسسات الدولة المصرية جيدًا طبيعة الصراعات الهجينة التى تشتبك معها حاليًا، وتمارس «استراتيجيات طويلة الأمد مضمونة النتائج» لتحييد وإخضاع الخصوم والمساومة والتهديد الظاهر والباطن بملفات إقليمية أخرى، وتعلم متى وأين وكيف تصعد وتخفض حدة الصراع، وتنجح دائمًا فى اللعب على تناقضات المصالح لكل الأطراف وتطويعها لصالح قضايا ومصالح الأمة المصرية، وبما نضمن معه الحفاظ على مكتسبات مشروع الإصلاح الاقتصادى داخليًا، واستكمال مشروع التنمية الشاملة الحالية، وعدم العودة مرة أخرى لنقطة الصفر وترك الإقليم يتم ابتلاعه والوقوع فى شباك المخططات المشبوهة.