رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هيكل يروى أسرار ليلة 23 يوليو

هيكل
هيكل

مساء ٢٢ يوليو كنت فى أخبار اليوم حتى التاسعة والنصف، وفى العاشرة والنصف كنت فى منزلى، عندما اتصل بى فريد زعلوك من الإسكندرية، وفريد صديقى ومقرب من نجيب الهلالى رئيس الوزراء، وهو وزير دولة فى حكومته. 

فوجئت به يقول لى: يبدو أن هناك أمرًا ما داخل الجيش، ولقد بلغت نجيب الهلالى عن طريق السرايا أخبار عن أمر ما داخل الجيش، وهو يسأل عما إذا كانت لديك معلومات فى هذا الشأن. 

قلت: ليست لدىّ ملعومات، ما هى بالضبط المعلومات المتوافرة لديك؟

أجاب فريد زعلوك: يبدو أن بعض الضباط تركوا الثكنات. 

كان نجيب الهلالى قد طلب من فريد زعلوك الاستفسار منّى لأنه كان يعرف أن لى صلة ببعض الضباط، ومنهم محمد نجيب الذى كنت رشحته ليكون وزيرًا للحربية فى حكومة الهلالى الأولى، لأن الهلالى كان يبحث عن ضابط محبوب فى الجيش ليشركه فى الحكومة وزيرًا للحربية. 

بعدما انتهت مكالمة فريد زعلوك قررت مغادرة المنزل من دون أن أعرف إلى أين أذهب؟ 

وفجأة رن جرس الهاتف، وكان المتحدث سعد توفيق، قلت له: ما الأخبار؟ 

أجاب: يظهر فيه هيصة، هناك أمور كثيرة، وإذا كنت تريد كتابة شىء عما يحدث فهذه حكاية كبيرة، واتفقنا على أن نلتقى فى العباسية، ثم توجهت إلى منزل محمد نجيب، وكان سهرانًا ويرتدى قميصًا وبنطلونًا وينتعل شبشبًا. 

اتصل أحدهم بمحمد نجيب هاتفيًا وفهمت أنه مرتضى المراغى. 

اتصل المراغى مرة أخرى وقال ما معناه أن بعض الضباط تركوا الثكنات وأن ذلك سيُحدث فوضى فى البلد، وتبعًا لذلك سيتدخل الإنجليز، ولذلك فإن الملك يفوض إلى نجيب الاتصال بالعيال المجانين دول وينهى المسألة بالتى هى أحسن. 

رد عليه محمد نجيب بما معناه أن لا معلومات لديه حول الأمر، وأعتقد أن محمد نجيب لم تكن لديه بالفعل معلومات، وأن كل ما عرفه من جمال عبدالناصر هو أن هناك حركة داخل الجيش، وكان عبدالناصر عندما تحدث معه عن تلك الحركة بشكل مقتضب سأله إذا كان يريد الانضمام إليها، وأبدى نجيب حماسه، وانتهت الاتصالات بينهما عند هذا الحد يوم ١٨ يوليو ١٩٥٢. 

كرر محمد نجيب لمرتضى المراغى أنه لا يعرف شيئًا عن مسألة ترك الضباط الثكنات، وفوجئت به يقول أيضًا: حتى أنا عندى الآن الأستاذ هيكل بتاع أخبار اليوم.

وبعد ما سألته عن سبب قوله ذلك للمراغى تركت منزل محمد نجيب للقاء سعد توفيق فى المكان الذى اتفقنا على اللقاء به، وأخذنى سعد توفيق إلى القيادة. 

كانت الساعة نحو الثالثة فجر ٢٣ يوليو ١٩٥٢، الشخص الأول الذى شاهدته كان عبدالحكيم عامر، وجدته واقفًا على الباب، وعندما رآنى قال لى: خلاص القاهرة كلها. 

وقلت: إيه يعنى القاهرة كلها؟ 

أجاب: أخذناها.. القوات مسيطرة على كل القاهرة. 

قلت له: هل هذا انقلاب؟ 

بعد ذلك تطلعت إلى حوش القيادة فوجدت بعض الضباط والجنود يفترشون الأرض ويأكلون، وهؤلاء كانوا أفراد الكتيبة ١٣ التى قبضت خطأ على عبدالناصر وعبدالحكيم عامر ثم تعرف عليهما يوسف صديق وأفرج عنهما. 

سألت نفسى: هل أبقى حيث أنا أم أنزل إلى الضباط والجنود الذين كانوا يغمسون أرغفة الخبز بالفول وأتحدث إليهم لأعرف ما الذى جرى؟ 

إن سعد توفيق اختفى، وعبدالحكيم عامر اختفى، وخلال ثوان من هذه الحيرة عاد عبدالحكيم يقول لى: إيه رأيك هل يتدخل الإنجليز؟ 

وأشار لى قائلًا: صاحبك ينتظرك فوق؟ 

وصعدت لأجد جمال عبدالناصر ومعه كمال الدين حسين الذى كان لا يزال عاتبًا على مقالٍ كتبته فى «آخر ساعة» عام ١٩٤٩. 

قلت له: ما الذى حصل؟ 

أجاب: خلاص. 

قلت له: خلاص إيه؟ 

أجاب: كنت تقول إن الجيش عجز عن رد شرف البلد عام ١٩٤٨، هل الذى فعله الجيش الآن كويس؟ 

قلت له: ما الذى حدث، ما الذى تقول إن الجيش فعله؟ 

أجاب وكانت برقيات التأييد بدأت تصل من المناطق: يعنى لسه مش فاهم؟ 

وأضاف: لا يهم ما الذى سيحدث، المهم أننا صممنا ونفذنا وأكدنا أن فى مصر شبانًا رفضوا المهانة وتحركوا. 

فكرت فى أن أتصل بصحيفة الأخبار لأعرف الجو داخل الصحيفة والمعلومات التى وصلتها، رد علىّ سكرتير التحرير حسين فريد، سألته عن أحواله فأجابنى: يظهر إن فيه دوشة. 

قلت له: ما الذى ستكتبه؟ 

أجاب: لا أعرف.. اتصل بى مصطفى بيه وقال إنه يبحث عنك. 

قلت له: ما الذى سنفعله؟ 

أجاب: لا أعرف.. ما الذى حدث بالضبط؟ 

قلت: الذى حدث هو أن الجيش ترك الثكنات وقام بحركة، هل أنجزت الطبعة الأولى؟ 

فى هذا الوقت دخل موظف الهاتف فى الأخبار، وقال لى: أستاذ هيكل.. مصطفى بيه بيتكلم من إسكندرية ويسأل عنك يريد التحدث إليك هل أصلك به؟ 

وأجبته: أيوه. 

وسألنى مصطفى أمين عن الذى حدث، وسألنى أين أنا الآن.

وقال: يبدو أن فى الجيش حركة عصيان.. هل عندك معلومات؟ 

قلت: لا ليس عندى معلومات. 

قال: إزاى ما عندكش معلومات.. أنت فين دلوقت؟ 

أجبته: أنا فى رحاب العصيان. 

قال: الخط وحش ممكن تدينى نمرة التليفون وأنا حاطلبك؟ 

قلت: لا.. لا أستطيع أن أعطيك رقم الهاتف حيث أنا الآن. 

وأصر مصطفى أمين على أن أعطيه رقم هاتف القيادة فطلبت منه أن ينتظر قليلًا. 

كان فى الغرفة سعد توفيق وعبدالحكيم عامر، وكان جمال عبدالناصر فى الخارج، لا أعرف أين، وشعرت بأننى لا يمكن أن أعطيه من دون أن أستأذن.

قلت لسعد توفيق إن مصطفى أمين يتحدث من الإسكندرية ويريد أن أعطيه رقم الهاتف، وسمع عبدالحكيم عامر كلامى، فقال مستهجنًا: إيه؟ 

وكان عبدالناصر فى طريقه عندئذ إلينا وسمع عبدالحكيم عامر يعبر عن استغرابه بعبارات قاسية، وضحك عبدالناصر.

قال لى: أعطه الرقم.

وقال لسعد توفيق: شوف النمرة كام؟ 

وأعطانى سعد الرقم فأعطيته لمصطفى أمين. 

وأغلقت سماعة الهاتف بينما كان عبدالحكيم عامر يقول لعبدالناصر: إزاى ده يحصل.. السرايا هتعرف. 

ورد عبدالناصر: مش مهم يا حكيم، يجب أن نعرف كيف يفكرون، المهم أن يتصل وهيكل يعرف منه، مش هو يعرف من هيكل. 

منذ اليوم الأول وجدت نفسى وسط القيادة، أشرح كيف أن الإنجليز لن يتدخلوا، أعطى رقم هاتف القيادة لمصطفى أمين، أسمع كل الأحاديث من كل المشاركين فى الثورة. 

بعد قليل من إعطائى رقم الهاتف اتصل بى فريد زعلوك، ثم اتصل مصطفى أمين يسأل عن التفاصيل وعن مكان وجودى، قلت له لا تفاصيل حتى الآن وإننى موجود فى مبنى من مبانى الهيصة اللى إحنا فيها.

قلت له: حنكتب حاجة؟

أجابنى: لا.. لا.. مش مسألة كتابة، استنى لما نشوف حيحصل إيه.. إيه اللى هيحصل؟ 

قلت له: أرى دبابات كثيرة تخرج وعربات عسكرية تدخل. 

قال: هل اللواء محمد نجيب عندكم، هل هو مشترك فى الحركة؟ 

أجبته: رأيته منذ قليل ولا أعرف أين ذهب. 

قال: هل يمكن أن تستقصى لنا الأمر وتلم بالصورة كاملة وتخبرنا؟ 

كانوا يريدون أن يعرفوا الموقف منّى، وهم سألوا عن محمد نجيب لأنه كان مكلفًا من الملك أن يتصل بقيادة الحركة ويهدئ الوضع. 

بعد ذلك اتصل فريد زعلوك مرة ثانية وكان قد حصل على رقم الهاتف من مصطفى أمين.

وقال فريد: إن الهلالى باشا عاوز يكلمك. 

وسألنى نجيب الهلالى عن الحالة والأخبار وما إذا كنت أعرف أحدًا من أركان الحركة، وقلت له إننى أعرف بعضهم، وسأل عن محمد نجيب وطالب أن يتحدث إليه، وبعد ذلك طلب منّى أن أتصل بالذين أعرفهم من أركان الحركة وأسألهم ماذا يريدون، وأن أوضح لهم أن المسألة فى منتهى الخطورة لأن الإنجليز سيتدخلون. 

كرر الهلالى الطلب: أنت يا محمد لازم تكون على معرفة بالناس دول، أنا عاوز تقول لهم هم عاوزين إيه؟ 

فى هذه اللحظة دخل أنور السادات فكلفه عبدالناصر بالتوجه إلى محطة الإذاعة لقراءة البيان الأول للثورة. 

قال لى عبدالناصر: قل لهم أن يسمعوا بيانًا من الإذاعة سيذاع فى الساعة السابعة صباحًا. 

كان الوقت عندئذ نحو السادسة إلا الربع، أى قبل الموعد المحدد لإذاعة البيان بساعة وربع الساعة، وعدت إلى سماعة الهاتف أقول عبرها للهلالى ما قاله عبدالناصر بخصوص البيان من دون أن أذكر اسم عبدالناصر. 

قال الهلالى: لا يا محمد، مفيش داعى للفرقعة، هل عرضت الفكرة التى قلتها لك على أحد من الأركان فيهم؟ 

قلت: أظن أن الذى تحدثت إليه هو من المسئولين فى الحركة. 

ورد الهلالى: اذهب وقل لهم إنه لا داعى للتسبب فى حدوث فرقعة، وإن الملك مستعد لإجراء أى تعديلات يريدونها إذا كانوا يريدون تعديلات داخل الجيش، هل هم يريدون إجراء تعديلات فى الجيش، وأين هو محمد نجيب؟ 

قلت: موجود معهم.. أظن أنه منضم إليهم. 

قال: هل اتصل نجيب بأحد فيهم؟ أين هو نجيب؟.. أريد أن أتحدث إليه. 

وقلت للهلالى أن يتصل بى مرة ثانية، وبدأت أفكر برد عليه، إنه يسأل عن محمد نجيب، وأنا قلت له إن محمد نجيب مع الحركة لأننى اطلعت على البيان الذى طلب جمال عبدالناصر إذاعته فى الساعة صباحًا والبيان بتوقيع محمد نجيب. 

واتصل الهلالى مرة ثانية، وكنت محرجًا بالفعل، سأل أيضًا عن محمد نجيب.

قال: هل يمكن أن تبلغ جماعة الحركة أن الحكومة مستعدة لاستصدار مرسوم من الملك بتعيين محمد نجيب قائدًا عامًا للقوات المسلحة على أن يجرى هو التعديلات التى يريدونها داخل الجيش، إننا لا نريد فرقعة. 

ومرة أخرى قلت للهلالى أن ينتظر.

ذهبت لأتحدث مع جمال عبدالناصر فى العرض. 

قلت له وكان إلى جانبه محمد نجيب وزكريا محيى الدين: إن نجيب الهلالى على الخط ويعرض عليكم استعداد حكومته لاستصدار مرسوم من الملك بتعيين محمد نجيب قائدًا عامًا للقوات المسلحة على أن يجرى وفق الأصول الدستورية التعديلات التى تريدونها داخل الجيش. 

ولمجرد أن سمع محمد نجيب العرض رحب به وقال لعبدالناصر: إيه رأيك يا جمال بيه؟ فكرة معقولة نوافق عليها وبلاش فرقعة. 

أما جمال عبدالناصر فقال: لا.

ثم نظر إلى محمد نجيب وقال يخاطبنى: لا.

وأضاف: الفرقعة مطلوبة بحد ذاتها لإعلان التغيير وإشعار الناس بما حدث.

كرر محمد نجيب ترحيبه بالعرض المقدم من الهلالى.

فكرر عبدالناصر تمسكه بضرورة أن تحدث الفرقعة، وعدت إلى سماعة الهاتف أروى للهلالى ما حدث، فقال لى: إننى لا أستطيع تحمل الموقف ما دام ليس عندى حل، وأنا على أى حال سأتحدث مع الملك فى الأمر. 

وأغلق الهلالى سماعة الهاتف، وذهبت إلى جمال عبدالناصر أقول له إن الهلالى رجل نظيف وإنه فى موقف لا يحسد عليه. 

ورد عبدالناصر: لا يهمنى أنه نظيف، الذى يهمنى هو أن تستقيل الحكومة لأنه عندما تستقيل الحكومة منذ اليوم الأول للثورة يكون ذلك إثباتًا عمليًا بأننا مسيطرون على الموقف وأن هنالك قوة جديدة فى البلد.