رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبد الناصر يسأل هيكل: ما الذي يريده الشعب من الجيش؟

عبد الناصر وهيكل
عبد الناصر وهيكل

فى ١٨ يوليو ١٩٥٢ أى قبل الثورة بأيام قليلة كنت أزور اللواء محمد نجيب فى بيته، عندما دخل شخصان.

الأول كان جمال ومعه شاب يرتدى قميصًا أبيض وبنطلونًا رماديًا عرفت فى حينه أنه عبدالحكيم عامر الذى لم أكن قد تعرفت إليه. 

تردد عبدالناصر فى الدخول، ولما كان لا يريد التحدث مع محمد نجيب أمام أحد، فإنه أشار على نجيب وغادرا المكان معًا يرافقهما عبدالحكيم عامر، وبعد نحو ربع ساعة عادوا. 

جرت مناقشة بينى وبين جمال عبدالناصر.

قلت مستفزًا: إذا كان الجيش لم يتمكن من الدفاع بالقدر الكافى عن البلد فعليه على الأقل أن يدافع عن نفسه وعن كرامته. 

ورد عبدالناصر: ما الذى يمكن أن يفعله الجيش؟ 

أجبته: لا أدرى.. إنما من المهم بعد الذى فعله الملك أن يدافع الضباط عن أنفسهم وكرامتهم. 

وقال عبدالناصر: هل يعنى أن يقوم الضباط بانقلابات كتلك التى حدثت فى سوريا؟ 

قلت: لا.. أنا لست مع فكرة القيام بانقلاب. 

رد عبدالناصر: ما الذى نفعله إذن؟

عرضت عليه فكرة ساذجة. 

قلت له: ما الذى يمنع أن يتوجه ألف ضابط إلى السرايا، ويكتبوا فى سجل الزيارات أن الموقف تردى وأنه لا بد من معالجة هذا الموقف. 

رد جمال عبدالناصر على هذه الفكرة بقوله: هذا سيعتبر عصيانًا، وكأننا بهذه الفكرة نقول علانية إننا نحن ضباط الجيش سنقوم بانقلاب. 

وعدت أقول لعبدالناصر: أنا شخصيًا ضد الانقلاب، ولكن لا بد من حدوث شىء. 

وأجابنى: أنت تكتب فى السياسة، هل لك أن تحدد لى ما الذى يمكن أن يفعله الجيش. 

كان عبدالحكيم عامر يسمع المناقشة من دون أن يشارك فيها، أما محمد نجيب فقال إنه بصدد إعداد مذكرة تمهيدًا لرفعها كدعوى لدى مجلس الدولة، وإن رفع الدعوى سيكلف ثمانية جنيهات. 

تحدثنا عشر دقائق بعد ذلك، وغادرت منزل نجيب لأركب سيارتى «أوبل كابيتان»- لونها أسود- وأعود إلى مكتبى، وعلى زاوية الشارع لمحت جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر واقفين كما لو أنهما فى انتظار أحد، أو فى انتظار سيارة تاكسى. 

قلت لهما: هل تريدان أن أوصلكما؟ 

وسألنى عبدالناصر: إلى أين أنت ذاهب؟ 

قلت: إلى وسط البلد. 

وركب الاثنان سيارتى، عبدالناصر إلى جانبى، وعبدالحكيم عامر فى المقعد الخلفى. 

فى الطريق قال لى عبدالناصر: إنكم تتكلمون، كل واحد منكم يتكلم، إنما لم يقدم أحدكم حلًا، إن الانقلاب غير ممكن، مَن الذى سيقوم بالانقلاب؟ 

بعد نصف ساعة من الكلام قال عبدالحكيم عامر لجمال عبدالناصر: سننزل هنا فى محطة باب الحديد.

لم ينزل عبدالناصر، فوجئت به يقول لى إنه ضحك كثيرًا لمنظرى وأنا أحيى الإمام آية الله الكاشانى ضمن صور ضمنتها فى كتابى «إيران فوق بركان»، لكنه انتقل إلى الحديث عن الانقلاب وكيف أنه سيؤدى بالبلد إلى كارثة. 

وفجأة سألنى: هل تظن أن الإنجليز سيتدخلون لو حدث انقلاب فى مصر؟ 

لاحظت أنه يصغى باهتمام كلى إلى الجواب. 

أجبته: الإنجليز لن يتدخلوا. 

وعندما سمع الجواب المقتضب أراد المزيد من التفاصيل. 

قلت له: إن الإنجليز لا يمكن أن يتدخلوا لأسباب عدة، منها أنه ليست لديهم قوات كافية للسيطرة على كل المدن المصرية، بالإضافة إلى ذلك أن السفير البريطانى فى إجازة والملحق العسكرى فى إجازة، حتى أننى عرفت من أحد الأصدقاء أن قائد القوات البريطانية فى الإسماعيلية موجود خارج مصر فى إجازة، إن الموسم هو موسم إجازات، والتدخل يحتاج إلى وقت. 

قبل أن ينزل عبدالناصر من سيارتى فى محطة باب الحديد قال لى: من الضرورى أن نكمل الحديث. 

فطلبت أن نذهب إلى مكتبى فى الأخبار فرفض عبدالحكيم عامر بحدة.

سألتهما: هل تذهبان إلى بيتى، فوافقا على الفور.

كنت أسكن فى ١٤ شارع شجرة الدر بالزمالك فى عمارة دار الهناء. 

سألنى عبدالناصر: هل عندك تليفون فى منزلك؟ 

وأعطيته رقم الهاتف. 

فى اليوم التالى اتصل بى هاتفيًا وقال: أنا الذى التقاك أمس هل تذكر؟ 

وتقابلنا يوم ١٩ يوليو، جاءنى عبدالناصر، ووقتها لم أكن قد تزوجت بعد، ورغم ذلك كان بيتى مرتبًا، وكان يعمل معى سفرجى هايل، وكان البيت مليئًا بالكتب التى كنت آتى بها من سفرياتى المختلفة لرغبتى الشديدة فى القراءة والاطلاع. 

عندما دخل عبدالناصر إلى البيت تفحص كل أركانه، 

أرسلت مساعدى عبدالرسول لشراء عشاء خفيف للضيفين، وجاءنا بعلب من «السيمون فيميه». 

سألنى عبدالناصر: أنت أرستقراطى؟ 

فقلت له: أبدًا.. أنا من أسرة بسيطة، وما صنعته من مستوى حياة بعملى وحده. 

بدأ الحديث فى قضايا عادية جدًا، حدثنى عن الصحافة وعن المجلة التى كانوا يصدرونها فى الفالوجة، وعن فلسطين وعما جرى هناك، تحدث لمدة نصف ساعة تقريبًا، ثم وجه لى سؤالًا شعرت بأنه الغرض الأساسى من زيارته لى. 

قال: كنا نتحدث أمس عن الإنجليز وإمكان تدخلهم، هل يمكن أن تحدد لى بطريقة مرتبة الأسباب التى أوردتها أمس وانتهيت منها إلى أن الإنجليز لا يمكن أن يتدخلوا لو حدث انقلاب أو شىء من هذا القبيل فى البلد؟ 

عرضت له ما طلبه، كان ذلك فى وقت مبكر من يوم ١٩ يوليو، وشعرت بأن الصلة بيننا بدأت منذ انتهى هذا اللقاء الذى سافرت بعدما أنهيناه إلى الإسكندرية.