رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

توترات جديدة بسيناريو قديم

الرئيس التركى، كما انتهينا أمس، لن يتوقف عن محاولات خلق أو اختلاق توترات جديدة، لدفع اليونان وقبرص، والاتحاد الأوروبى، إلى الدخول فى مساومات، لانتزاع مكاسب لا تقرّها القوانين أو الأعراف الدولية، ما يجعل «الابتزاز» هو الوصف الأنسب لتلك المحاولات، المحكوم عليها بالفشل. غير أن الأهم، هو أن هناك محاولات تركية، واضحة ومستميتة، لاستنساخ السيناريو القبرصى فى سوريا والعراق وليبيا، و.... و... وصولًا إلى باشكورستان وأفغانستان!

بينما كان المذكور يزور الشطر الشمالى من جزيرة قبرص، الثلاثاء الماضى، بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين لقيام تركيا بغزو الجزيرة، ذهب سليمان صويلو، وزير داخليته، فى اليوم نفسه، إلى المناطق السورية الشمالية المحتلة، بمناسبة عيد الأضحى. وأظهرت فيديوهات الزيارة، التى احتفت بها وكالة أنباء «الأناضول» الرسمية، أن المقرات التى تجول فيها، بريف حلب الشمالى، تحديدًا بمدينتى أعزاز وعفرين، ترفع العلم التركى، وصور أردوغان، ومصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، كعادة المقرات والدوائر الحكومية التركية.

اختيار وزير الداخلية تحديدًا للقيام بهذه الزيارة، مقصود طبعًا، والهدف الواضح منه هو ترسيخ فكرة، تصورات أو مزاعم، أن هذه المناطق تدخل ضمن نطاق صلاحياته ومهام وزارته: الداخلية التركية. وتبديدًا لأى تفسيرات أخرى أوضح صويلو أن سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان، وكل المنطقة الإسلامية، تقع ضمن نطاق مسئولياته. ما يعنى أنه لا يزال يعيش فى العهد العثمانى، ويتوهم أن «السلطان» التركى يحكم ويتحكم فى ولايات وشعوب المنطقة.

تأسيسًا على ذلك، نرى أن إعلان الرئيس التركى، للمرة الثانية، عن اعتزامه إعادة فتح «فاروشا»، التى كانت منتجعًا سياحيًا وتحولت، بعد الغزو التركى، إلى مدينة أشباح، ليس أكثر من عرض للمشكلة الأكبر، وهى رغبته فى استمرار سيطرته على شمال قبرص، ومحاولته نسف عقود من المفاوضات الهادفة إلى إعادة توحيد شطرى الجزيرة، وإنهاء الأزمة القبرصية.

الأزمة القبرصية، بدأت فى ٢٠ يوليو ١٩٧٤، حين قام الجيش التركى بغزو جزيرة قبرص، ومن وقتها انقسمت الجزيرة إلى شطرين، بـ«خط أخضر»، طوله حوالى ١٨٠ كيلومترًا، يمر بمدينة نيقوسيا. ثم أعلن الشطر الشمالى، الخاضع سياسيًا وعسكريًا لسيطرة بلاده، الانفصال وأقام دولة وهمية لم تعترف بوجودها إلا تركيا. وبالسيناريو نفسه، توالت الاجتياحات العسكرية التركية لشمال سوريا، وعلى وقعها تصاعدت عمليات التتريك الممنهجة، وطالت مختلف نواحى الحياة، لدرجة فرض اللغة والعملة التركيتين فى المدارس والأسواق، ما سيؤدى مع مرور الوقت إلى استنساخ نموذج شمال قبرص فى الشمال السورى، الذى جرى اقتطاعه، بالفعل، وتضاءلت احتمالات تحريره أو تخلصه، قريبًا أو على المدى المتوسط، من الاحتلال التركى.

تثبيتًا لأقدامها هناك، وتوسيعًا لأنشطتها فى مناطق أخرى، قامت أنقرة، فى ٢٨ يناير ٢٠١٧، بدمج غالبية التنظيمات الإرهابية السورية فى كيان جديد سمّته «هيئة تحرير الشام»، وضمت له لاحقًا غالبية الإرهابيين الأجانب. ومع أن الدولة التى تحمل تاريخيًّا اسم الشّام، هى سوريا، إلا أن نطاق أو أماكن عمل تلك «الهيئة»، امتد حتى بشكيريا، أو «باشكورستان»، وهى إحدى الجمهوريات الروسية، التى يرى الأتراك أن شعبها ينتسب إلى الأمة التركية. 

فى أفغانستان، أيضًا، التى تشير تقديرات عديدة إلى أن حركة «طالبان» قد تتمكن من السيطرة عليها بالكامل خلال ستة أشهر، لن يكون بعيدًا، أو مستبعدًا، أن تشاركها جماعة «الإخوان» فى الحكم، برعاية أمريكية وتمويل قطرى ودعم تركى. ولا تلتفت إلى إعلان الحركة عن رفضها وجود قوات تركية، لأنها أقرت، مرارًا، بأن علاقاتها جيدة مع تركيا وتصفها بـ«الدولة الشقيقة».

اللعب التركى فى ليبيا وسوريا لم يعد خافيًا على أحد، وتدرجت خشونته من دعم التنظيمات الإرهابية إلى التدخل العسكرى الصريح. لكن اللعب فى العراق يتم بخشونة أحيانًا، وبنعومة وهدوء وحذر فى كثير من الأحيان. إذ تحاول التمدد فى المحافظات الشمالية، بعمليات عسكرية، وتقوم فى الوقت نفسه بإزكاء النعرات القومية، كأن تقوم، مثلًا، بتأليب تركمان كركوك وعربها ضد سلطات إقليم كردستان، لترجيح كفتها فى الصراع على المناطق الغنية بالنفط. وأمس، الخميس، استدعت وزارة الداخلية العراقية ٣ ضباط بعد أدائهم التحية العسكرية لنشيد قومى تركى، أثناء مراسم أقيمت فى كركوك، منتصف الشهر الجارى، بحضور سفير أنقرة.

خلال أيام، يعقد مجلس الأمن اجتماعًا بشأن فاروشا والأزمة القبرصية إجمالًا، غير أن أنقرة ستتجاهل، كما اعتادت، أى قرار يصدره المجلس. ولعلك تعرف أن الجهود المصرية، الأوروبية والأممية، المستمرة، لحل الأزمة الليبية، مثلًا، تتصادم دائمًا بتحركات تركيا، المتحدية للإرادة الدولية والقرارات الأممية، التى لم يردعها، جزئيًا، إلا تحذير مصر من تجاوز الخط الأحمر، خط سرت- الجفرة، وإشارتها بوضوح، إلى أن من سيتخطاه سيذهب إلى الجحيم.