رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علاقة الهجرة بالثقافة والهوية

تعد الهجرة في العصر الحديث إحدى أهم نتائج الرأسمالية العالمية. وهي شكل من أشكال تدويل رأس المال وبخاصة رأس المال البشري،ومن ثّم أصبحت الهجرة الدولية ظاهرة ملموسة بل لعلها أهم تحول نوعي فى حركة انتقال البشر والمنتجات والثقافات التى تشهدها البشرية. وعلى الرغم من أن رأس المال البشري أحد أهم عناصر الإنتاج إلا أن الدول الناميةما زالت عاجزة عن الاستفاده منه. وفي المقابل تسعى دول أخرى إلى الاستثمار في العنصر البشري، ولذلك ترحب بالمهاجرين الذين يسهمون في تقدمها الاقتصادي.وتعاني دول العالم النامي بوجه عام من الهجرة بأشكالها المختلفة، برغم الفوائد التي تعود على هذه الدول، كنقل التكنولوجيا، والتحويلات المالية، مما يزيد من حصيلة العملات الصعبة؛ وهو مايعزز النمو في تلك الدول على المدى القصير،ولكن على المدى البعيد تصبح تلك الدول خاوية من عناصرها البشريةالمتميزة، وهو ما يضعف من قدرتها على تحقيق التنمية.

ومن أهم الباحثين في هذا المجالالباحث المصري الدكتور أيمن زهري،مؤسس ورئيس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة. وقد صدر له مؤخرًاكتاب "الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر".ومن خلال سبعة محاور قام الباحث بدراسة أثر هجرة المصريين منذ السبعينيات إلى دول الخليج على المجتمع المصري وثقافته.وفي رأى الباحث أنه على الرغم من بعض فوائد الهجرة، التي أهمها التحويلات المالية، والتي لها دور فعال في الاقتصاد،إلا أن ثمةوجهًا آخر للهجرةحدث مع انفتاح السبعينيات،ويكمن فيحدوث تحولات اجتماعية وثقافية كان لها دورًا هامًا في خلق فجوات بين الطبقات.وفي تقديري أن هذه الفجوة الطبقية التي حدثت في مصر ليست ناتجة فقط عن الهجرة، ولكن يكمن السبب الأساسي في مجموعة من السياسات الاقتصادية، والتي قامت مصر من خلالها بالانفتاح على السوق العالمية، وهو ما عرف شعبيًا بالانفتاح الاقتصادي، وما صاحبه من هجرة الكثيرين إلى الخارج. 

ويري المؤلف أن الهجرة ظاهرة حتمتها الظروف وبخاصة في العصر الحديث والمعولم،وقد ساهمت في تشكيل الخريطة السكانية للعالم، حيث تنقل فائض رأس المال البشري من الدول ذات الكثافة السكانية المرتفعة إلى دول منخفضة الكثافة، والذي بدونه لا تكتمل العملية الإنتاجية. وقد صاحب ذلك انتقالالثقافات والأفكار والمدارس الفلسفية والأدبية،على نحو ما حدث في الإسكندريةبعدالهجرة الأوروبيةبدءًا من القرن التاسع عشر تقريبًا، فالتحمت الثقافة الأوربية الوافدة بالثقافة المحلية ونتج عنها "الإسكندرية الكوزوموبليتانية"، والتي أفرزت مبدعين وفنانين كالشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، والشاعر الإيطالي أونجاريتي والروائي الإنجليزى لورانس داريل.

ومن خلالطرح الكتاب لتساؤل هام عن الهوية المصرية عبر التاريخ، يعتبر المؤلف أن حملة نابليون بونابرت مثلت تغيرًا نوعيًا في مفهوم الهوية في مصر، وهو رأي ربما لا يوافقه عليه البعض. فقد ظلت مصر تقريبًا حتى ظهور لطفي السيد سواء على مستوى الشعب أو النخبة مرتبطة عاطفيًا بالخلافة العثمانية. وقد درس المؤلف التغيرات في الهوية المصريةمركزًا على ما أحدثته ثورة 1952 ووصول عبد الناصر إلى الحكم، حيث"تبلورت فكرة العروبة والقومية العربية وتحولت إلى واقع عملي، وأثناء هذه الفترة ازدهرت الفنون والآداب، وعلى المستوى الاقتصادي ازدهار مجالات الصناعة والإنشاء والتنمية المحلية". ومع فترة حكم السادات تراجعت القومية العربية، ليحل محلها حلم "القومية الدينية" على حد تعبير المؤلف، والتي اتضحت في دعم الدولة لبعض الدعاة، الأقرب إلى السلفية والمدعومين بأموال النفط، وكان من نتيجة ذلك حدوث تغييرات في ثقافة المجتمع،ومن هذه الأدوات أيضًاالعمل على نشر الحجاب وما سمي بالزي الشرعي، وإغراء بعض الفنانات باعتزال الفن واعتباره حرامًا.

في أحد محاور الكتاب "ثقافة البترودولار وخلجنة المجتمع المصري"، يفسر الكاتبالتحولات التي حدثت في الثقافة المصرية،بربطها بالهجرة إلى دول الخليج، وما نتج عنهامنآثار اجتماعية وثقافية، هي الأكثر خطرًا، حتى وإن كان هناك بعض المكاسب الاقتصادية كالتحويلات المالية. وهذا التغير لا يمكن "اختزاله في ارتداء الجلباب الأبيض واصطحاب بعض الفليبينيات، ولا حتى انتشار قيم المجتمع الاستهلاكي والتي ربما يكون من أهم أسبابه التحولات العالمية". صاحب الاختراق الثقافي الوهابي لمصر انتشار التدين الشكلي الذي يركز على المظاهر أكثر من قيم الدين والإيمان،ويري زهري أن "الغزو الثقافي الوهابي لمصر أشد خطرًا من الغزو الثقافي الأوروبي".

تزامنت سياسة السادات المشجعةللإخوان والسلفيين، مع انتشار الوهابية ونشرها من خلال الدولة السعودية، بعد الفوائض المالية الضخمة التي حققتها الطفرة النفطية. كما تزامن أيضًا مع ازديادمعدلات الهجرة، وكان أغلب المهاجرين من الذكور،وعند عودتهم كانواقد تشبعوا بمباديء الوهابية، وهو ما نتج عنهاعتبار المرأة  كائنًا ناقص العقل والدين، في حاجة دائمة إلى سيطرة الرجال، وهو ما تجلى في ملابس المرأة. وبالطبع لم يقف المد الوهابي عند المهاجرين العائدين بل استخدمت كل الوسائل وبخاصة التلفزيون وصولًا إلى وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحالدعاة المستخدمون في ذلك يتمتعون بشهرة الفنانين  ونجوميتهم ولهم الكثير من المريدين، فضلًا عن المهرجانات والمسابقات في العلوم الاجتماعية والأدبية، وإنشاء العديد من الدوريات والمجلات، والدعوة إلى أسلمة المعرفة.