رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخ لن ننساه (9)

بعدٌ عودةِ الأمورِ إلى نصابها عقبَ واقعةِ الاغتيالِ الكبرى التي راحَ ضحيتها رئيسَ الدولةِ ومنْ معهُ، وقيامَ الحكومةِ بضربِ تنظيمِ الجهادِ. والإفراجُ عنْ المعتقلينَ، وعودةُ الصحفيينَ المبعدينَ عنْ مؤسساتهمْ الصحفيةِ، وعودةُ أساتذةِ الجامعاتِ إلى كلياتهمْ. بدأتْ حالةً غيرَ مسبوقةٍ منْ الاسترخاءِ الأمنيِ. 
ومما زادَ في تأثيرِ تلكَ حالةُ الاسترخاءِ الأمنيِ صدورُ قرارِ النائبِ العامِ بإحالةِ عددِ 41 ضابطًا منْ ضباطِ الشرطةِ وخمسةٌ منْ الأفرادِ إلى محكمةِ الجناياتِ بتهمةِ تعذيبِ المتهمينَ منْ العناصرِ الإسلاميةِ. 


وكانَ هؤلاءِ الضباطِ على قناعةٍ كاملةٍ بأنهمْ أنقذوا البلادُ منْ كارثةٍ محققةٍ الوقوعِ، وأنهمْ بصددِ قيامهمْ بواجباتهمْ، وقعتْ منهمْ تلكَ الأخطاءِ، كما أنهمْ شعروا بأنهمْ قدْ دخلوا في نزاعٍ مسلحٍ معَ الجماعاتِ المتطرفةِ دونَ غطاءِ سياسيٍ. 


لمْ تكنْ حالةُ الاسترخاءِ تشملُ قواتِ الأمنِ وحدها، فحسبَ ما ذكرهُ المستشارُ عبدَ الغفارْ محمدْ أحمدْ أنَ التفكيرَ في قتلِ الساداتْ استغرقَ ستةَ أيامٍ فقطْ، وأنْ عمليةُ التنفيذِ بدأتْ يوم أنَ دخلَ الملازمِ خالدْ الإسلامبولي إلى المعسكرِ، أيْ الجريمةِ تمَ التخطيطُ لها في معسكرٍ تابعٍ للقواتِ المسلحةِ، وبدأتْ الدولةُ تركزُ جهودها إعلاميًا لفكرةِ الحوارِ معَ المتهمينَ، فأبعدتْ اللواءَ حسنْ أبو باشا.

 وجاءتْ بوزيرِ داخليةٍ لا يجلسُ في مكتبهِ وإنما تفرغُ لمراقبةِ الأمنِ والمرورِ في شوارعَ القاهرةِ. استمرَ هذا التدهورِ الأمنيِ خلالَ فترةِ الثمانينياتِ والتسعينياتِ. كانتْ خططُ الدولةِ وسياستها في بدايةِ مرحلةِ الثمانينياتِ تتركزُ حولَ مكافحةِ الإرهابِ. 
خلالَ تلكَ الفترةِ بدأَ تنفيذُ سياسةِ رفعِ الدعمِ عنْ السلعِ الجماهيريةِ بشكلٍ مفاجئٍ، وكانَ منْ نتيجتهِ رفعَ أسعارِ عددٍ منْ السلعِ الأساسيةِ والخدماتِ الضروريةِ والتي تستهلكها الجماهيرُ، والتي منْ أهمها الخدماتُ الصحيةُ، وأسعارَ الكهرباءِ والوقودِ. 


ونتيجةً لتلكَ السياسةِ أصبحتْ الطبقةُ الوسطى أقرب إلى الفقرِ، الأمرُ الذي ترتبَ عليهِ زيادةُ مساحةِ الفقراءِ في الدولةِ. 
وقدْ ساعدَ هذا عودة بعضُ أصحابِ الأموالِ منْ الخليجِ، والذينَ مكثوا هناكَ فترةٌ طويلةٌ وكونوا ثروات طائلةٍ، وتأثروا بقيَمِ تلكَ المناطقِ الصحراوية. 


معظمُ هؤلاءِ كانوا منْ أعضاءِ تنظيمِ الإخوانِ المسلمينْ الذينَ تمكنوا منْ مغادرةِ البلادِ خلالَ محنةِ الإخوانِ المسلمينَ الأولى عامَ 1954، ومحنةُ الإخوانِ الثانيةِ عامَ 1965. عادَ هؤلاءِ بثرواتهمْ ليقوموا بتوظيفها مستغلينَ مدخراتٍ بسطاء المصريينَ في الخارجِ، وممنْ لديهمْ ممتلكاتٌ صغيرةٌ لا تكفيهمْ لمواجهةِ غولْ الغلاءِ الذي بدأَ يكشرُ لهمْ عنْ أنيابهِ. 


وقدْ شهدَ عامُ 1986 انتشارِ شركاتِ توظيفِ الأموالِ والمصارفِ الإسلاميةِ، وتوسيعَ نشاطها ودعايتها، والتي قامتْ على أساسِ تحقيقِ القفزِ السريعِ للربحِ، وليسَ التدرجُ الطبيعيُ المدروسُ، حيثُ استطاعَ أصحابُ تلكَ الشركاتِ تخطيَ العديدِ منْ الفئاتِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ منْ حيثُ الثروةُ في سنواتٍ قليلةٍ كمحاولةٍ لخلقِ كيانٍ اقتصاديٍ يحميهمْ، وذلكَ منْ خلالِ عدةِ أمورٍ أهمها: 
محاكاةُ النموذجِ الخليجيِ لرجالِ الأعمالِ. ومحاولةُ التميزِ عنْ الطبقةِ العليا في المجتمعِ باستخدامِ الجلبابِ واللحيةِ. 
الإدارةُ العائليةُ للمشروعاتِ. 
التجمعُ الكبيرُ للمودعينَ ورشوةِ المسئولينَ، 
التوصيفُ الإسلاميُ للنشاطِ، والأخذُ بأسلوبِ قوافلِ التجارةِ القديمةِ، والظهورُ بمظهرِ الثراءِ. 
وهوَ الأمرُ الذي أدى إلى سحب مبالغَ طائلةٍ منْ آلافِ الأسرِ المتوسطةِ للقفزِ بالربحِ، وقدْ وصلتْ نسبةُ الربحِ التي وعدتْ بها شركاتُ توظيفِ الأموالِ لمودعيها أكثرَ منْ 24% ، وهوَ رقمٌ يتجاوزُ بكثيرٍ القدراتِ الاستثماريةِ لأيِ بنكِ مهما كانتْ عبقريةُ إدارتهِ. ولذلكَ أصبحتْ البنوكُ المصريةُ عاجزةً تماما عنْ استيعابِ أيِ مدخراتٍ منْ المواطنينَ. 
وكانَ حتمًا على الدولةِ أنْ تتدخلَ، ليسَ منْ أجلِ إنقاذِ أموالِ المودعينَ منْ غالبيةِ الشعبِ، ولكنْ منْ أجلِ درءِ خطرٍ داهمٍ يهددُ اقتصادَ الدولةِ عنْ طريقِ تدميرِ البنوكِ. 
كما كانتْ الدولةُ قدْ أعلنتْ عنْ نيتها في خصخصةِ بعضِ الشركاتِ والمصانعِ التي كانتْ تمتلكها، وفكرتُ في بيعها بأصولها العقاريةِ. 
بالطبعِ لوْ تركتْ شركاتِ توظيفِ الأموالِ حتى مرحلةِ الخصخصةِ لأمكنها بسهولةِ شراءِ تلكَ الأصولِ وتتحكمُ في الاقتصادِ والخدماتِ. لأجلَ هذا قامتْ الدولةُ بتجميدِ هذا نشاطُ تلكَ الشركاتِ عامَ 1988. 
وعلى المستوى الأمنيِ في الجبهةِ الداخليةِ فقدْ وقعتْ بعضَ الحوادثِ الأمنيةِ التي تشيرُ إلى تدهورٍ شديدٍ في أجهزةِ الأمنِ في تلكَ الفترةِ. 
في يوليو 1981 ألقيَ القبضُ على المدعوِ سالمْ رحالْ، وكانَ طالبا بجامعةِ الأزهرِ، وهوَ فلسطينيٌ منْ الضفةِ الغربيةِ، وكانَ يسعى لتأسيسِ تنظيمٍ دينيٍ لهُ مبادئُ تقتربُ منْ مبادئِ تنظيمِ الجهادِ الذي أسسهُ محمدْ عبدِالسلامْ فرجْ في عامِ 1981، مثلَ تكفيرُ الحاكمِ الذي لا يحكمُ بما أنزلَ اللهُ، وفرضيةُ الجهادِ، وكانَ الرجلُ يدعو إلى الجهادِ منْ أجلِ تكوينِ حكومةٍ إسلاميةٍ، ولا يرى أيَ مانعٍ في القتالِ منْ أجلِ هذا الهدفِ، وعندَ تفتيشِ مسكنِ الرحلِ عثرتْ أجهزةَ الأمنِ على بحثٍ دينيٍ يدعو إلى إقامةِ دولةٍ إسلاميةٍ عنْ طريقِ الجهادِ وتكفيرٍ . 


كما اكتشفتْ أجهزةَ الأمنِ اتصالاتٍ واسعةً قامَ بها سالمْ الرحالِ معَ عددٍ منْ المصريينَ، كما قامَ بتجنيدِ عددٍ منْ الشبابِ لأجلِ تكوينِ التنظيمِ الذي يزمعُ تشكيلهُ. وبعدٌ أنْ ألقتْ أجهزةَ الأمنِ القبضِ علي سالمْ رحالْ، احتجزتهُ في مقرِ المباحثِ العامةِ لمدةِ تقربَ منْ الشهرِ، وفجأةُ أصدرَ مديرُ مباحثِ أمنِ الدولةِ في ذلكَ الوقتِ أمرًا بترحيلهِ خارجَ البلادِ بدلاً منْ محاكمتهِ. 


ويرى اللواءُ فؤادْ علامْ أنَ قرارَ الترحيلِ هذا كانَ غريبا، خاصةً أنهَ لم يتمُ استجوابهُ خلالَ فترةِ احتجازهِ في مباحثِ أمنِ الدولةِ. 
يتبع