رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة البساطى

 

للأستاذ محمد البساطى «١ نوفمبر ١٩٣٧ - ١٤يوليو ٢٠١٢» منزلة كبيرة فى قلبى وقلوب من اقتربوا منه أو من أعماله، ليس فقط بسبب إنجازه العظيم فى الكتابة، ولكن أيضًا بسبب نزاهته واعتزازه بدوره كمثقف مستقل لم يضع إصبعه تحت ضرس أحد، كان يصغى إلى أحزان البسطاء وينسج منها أدبًا شجيًا يشير إلى قلب المصريين الأخضر، حمل قريته البعيدة معه بظلالها وأساطيرها والقهر الذى يسورها، حملها أينما ذهب، قرية طفولته البعيدة التى لا تشبه قرية اليوم، وهى القرية التى تناولها بطريقة مختلفة عن قرية عبدالحكيم قاسم ومحمد مستجاب وعبدالوهاب الأسوانى وعبدالرحمن الشرقاوى ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهم من الذين أبدعوا، كل على طريقته فى الكتابة عن الريف، عينه البريئة انحازت للذين يعيشون على هامش الحياة، أولئك الذين لا يراهم أحد ولا يهتم بهم أحد، ولكنهم يعيشون حياة غنية بالحكايات والرغبة العارمة فى البهجة المستحيلة.

حياة البساطى، التى مرت ذكرى رحيله التاسعة قبل أيام، غنية جدًا، فقد أتيح له بحكم عمله فى الجهاز المركزى للمحاسبات أن يزور كل بقعة فى مصر، عمل مفتشًا على مصلحة السجون وعلى بعض الوزارات، وعمل فى السعودية لمدة أربع سنوات لم يكتب خلالها حرفًا واحدًا، وسافر بلدانًا كثيرة، سعدت بالسفر معه إلى بعضها، ومع هذا ظلت القرية التى تركها فى سن مبكرة «الجمالية المطلة على بحيرة المنزلة» مصدر إلهامه، كان يحكى أن شخصية «بدرية» فى رواية «أصوات الليل» هى شخصية حقيقية، وكذلك شخصية الجد فى «ويأتى القطار»، هى الرواية الوحيدة التى يشبه البطل فيها محمد البساطى، وحياته منذ الطفولة وحتى المرحلة الثانوية، وانتظاره القطار الذى سينقله إلى العاصمة لمواصلة تعليمه، فى هذا العمل رصد مختلف لتطور مجتمع المدن الإقليمية، ويكفى تذكر مشهد افتتاح أول سينما فى بلده، وكيف خرج الناس كالنائمين، لأنهم لم يتعودوا السهر، صاحب التاجر والنقاش وحديث من الطابق الثالث وصخب البحيرة والخالدية وهذا ما كان، استمد نفوذه من موهبته فقط، ودفع ثمن استقلاليته بتعمد تجاهله على المستوى الرسمى، تصدر أعماله ولا يحتفى بها أحد فى مصر، باستثناء جمال الغيطانى الذى كان يحبه ويعرف قدره، ومع هذا تنفد هذه الأعمال، أعماله القصصية صدرت فى مجلدين ونفدت مرتين عن دار ميريت، وصدرت أعماله الكاملة عن هيئة الكتاب بعد رحيله ونفدت، دون خبر فى الصحف أو برامج فى التليفزيون، وهذا يؤكد أن فى مصر قارئًا مجهولًا يعرف أين تكمن القيمة ويبحث عنها، ويؤكد أيضًا أن الظواهر الأدبية العابرة التى يروج لها رأس المال الغشيم لن تصمد مع الوقت أمام الأدب الرفيع، البساطى من أنقى كتاب الستينيات وأعذبهم، ينتمى أدبه إلى اليسار بشكل ما، رغم أنه صاحب ضوء خفيف لا يكشف شيئًا ومنحنى النهر لم ينتم لأى تنظيم سياسى، هو ضد الاستبداد وضد التمسُّح بالدين، ولهذا فتحت جريدة «الشعب» فى مرحلتها الإسلاموية الشعبوية صفحاتها للنيل منه، فقط لأنه رفض نشر مجموعة قصصية لعلاء الأسوانى عندما كان مسئولًا عن سلسلة أصوات أدبية فى هيئة قصور الثقافة، وتم سب كل من دافع عن الكاتب العظيم وأنا منهم، أعرف البساطى منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، موهوب كبير، متواضع، خفيف الظل، تحرسه طفولة بعيدة، ذاكرة متقدة، زاهد عن الأضواء، صاحب عالم فريد ولغة خالية من الشحوم، هو كاتب الرمز والألوان الخفية والإيماء، عشنا إلى جواره سنوات طويلة، لم نشاهده فيها يفعل شيئًا ضد طبيعته النقية، يطل أو يأتى صوته على الهاتف، فتشعر ببهجة عريقة وصلة قربى، صاحب «ليالٍ أخرى» لم يأخذ حقه من الباحثين والنقاد بعد، لأن هناك من يريد أن تظل كنوز مصر الثمينة بعيدة عن أرواح الناس، البساطى وكثيرون مثل إبراهيم أصلان وخيرى شلبى أصحاب كرامات فى الكتابة.. ستظهر على الناس بعد انقشاع كل هذا الغبار.. ألف رحمة ونور عليك يا عم محمد.