رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أليفة رفعت.. تحطيم الأقلام

رن الهاتف وجاءنى صوت غليظ قوى يقول: يا أوستاذ.. أنا ابنتى تكتب الشعر وتريد أن تنشر قصائدها؟ هل تساعدها؟

قلت مستغربًا الطريقة: نعم.

قال: فإذا نشرتم قصيدة لها هل تدفعون فلوس.. مكافأة يعنى؟

قلت: لا بد أولًا أن أقرأ شيئًا مما تكتبه.

قال: طيب لحظة واحدة خليك معايا.

وسمعت صوت دبدبة أقدام ذهبت وعادت، وإذ بالرجل يتنحنح ويبسمل ويصيح كتلاميذ المدارس فى نشيد العلم: «قصيدة الحب الأول للشاعرة ولاء حسن»، وراح يقرأ علىَّ ما كتبته ابنته، حط علىَّ ذهول، فقد أدركت أن ابنته ممنوعة من مخاطبة الرجال، وجاءنى الصوت الخشن يزعق مثل أسياخ بيت يتساقط: حلوة القصيدة يا أوستاذ؟

لزمت الصمت فعاجلنى: هى تقصد بالحب الأول حب الأم.. يا أوستاذ.

غمرنى ألم من وضع شابة صغيرة موهوبة محاصرة، اتخذت من الحب المتاح رسميًا غطاء للتعبير عن عاطفة أخرى، تذكرت تلك السجون الصغيرة المنتشرة التى تحبس فيها مواهب المرأة، وتذبل بين جدرانها، وتساءلت: كم من المواهب والعقول والمشاعر نخسر بسبب الزنازين المغلقة؟

تذكرت قصة الكاتبة الموهوبة أليفة رفعت، التى احتفل جوجل بذكرى ميلادها من أسابيع، واسمها الحقيقى «فاطمة عبدالله رفعت» من مواليد القاهرة يونيو ١٩٣٠، انتبهت إلى موهبتها مبكرًا، ولكنها خلافًا لكل ما يفترض أن تكتبه المرأة «المهذبة» سجلت مشاعرها الحقيقية، فوبختها أختها الكبرى، وعنفتها، وحاولت أن تردها إلى زنزانة القيم الاجتماعية التى ترى المرأة دائمًا «وراء الرجل» عظيمًا كان أم تافهًا، المهم أن تكون «وراء» وليس فى المقدمة.

وفى الأربعينيات التحقت أليفة بجامعة القاهرة، رغم اعتراض أهلها فى البداية، وما بين ١٩٥٥- ١٩٦٥ لجأت الكاتبة إلى نشر قصصها باسم مستعار اتقاءً للمشاكل، فحاول شقيقها إسكاتها، ورفض زوجها أن تنشر أعمالها لأكثر من عشر سنوات كاملة.

والغريب فى الأمر أن اسمها لم يلمع فى جيل الستينيات، ولم نسمع باسمها حينذاك قط! وفى عام ١٩٨٣ نشرت أولى مجموعاتها القصصية «المنظر البعيد للمئذنة»، وضمت خمس عشرة قصة طرقت بقوة وعنف كل قضايا المرأة من الحرمان الجنسى، إلى الحصار الاجتماعى، إلى استبداد الرجل، وفى قصتها البديعة «المنظر البعيد للمئذنة» تطرح بوضوح قضية عدم إشباع المرأة جنسيًا فى العلاقة الزوجية، تطرحها بصراحة لكن برهافة، وبقوة لكن بجمال القلب والعقل الموهوبين دون ابتذال.

توفيت أليفة رفعت فى ٤ يناير ١٩٩٦ فى القاهرة بعد أن ترجم معظم أعمالها إلى عدد كبير من اللغات الأجنبية.

وقصة أليفة رفعت هى فى الواقع قصة تحطيم الأقلام وكسرها، لمجرد أنها بين أصابع النساء، ويذكرنى ذلك بحكاية روسية عن مغنية كانت تشدو بين الجبال فى إحدى القرى، تصدح أغنياتها بصوتها الرنان بعطفها على الفلاحين والفقراء فى القرية، فأمسك بها الإقطاعى الكبير وأمر أعوانه فخاطوا فمها ليسكتوا صوتها، هكذا تتكسر الأقلام، وتختنق الأصوات ونخسر ما لا يقدر بثمن حين نضع المرأة داخل زنزانة فكرية واجتماعية.