رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة حياة في إعلان وجنازة عسكرية لأم الأبطال

تخلى البعض عن شيم أهل بلدنا (بذكر محاسن موتانا) فمارسوا التنمر على سيدة رحلت عن دنيانا، سيدة لم تلقب بـ(الهانم) بل كان لقبها (أم الأبطال) تقديرًا لجهودها في رعاية أسر شهداء ومصابي حرب أكتوبر المجيدة فكرمت بوسام الكمال وإطلاق اسمها على محور الفردوس وأقيمت لها جنازة عسكرية لا أظن أن (الهانم) ستنالها عندما يقدر لها الإله مماتًا، ولكل واحدة من الجميلتين في السطور القليلة التالية قصة طويلة - ليست بالقصيرة - تحكي عن تاريخ آن الأوان له أن يحكي وصار حكيه الآن محتم يراد به رد الحقوق والمظالم، فتلك هي شيم أهل بلادنا في ردهم للمظالم لا ممارسة التنمر!
وسأبدأ باليوم الأسود وما تلاه من ليالي حالكة عاشتها الجميلتان، فتجرعتها إحداهما وزوجها يغتال في يوم العزة والنصر والأخرى وهي تتعرض للإيذاء المتعمد بفجر يندر وجوده في زمن غاب فيه العدل والإنصاف، واشتركت من تعرضت للإيذاء مع السيدة الفاضلة الراحلة المكرمة في ميزة عادة ما تتحول وللأسف إلى نقمة وهي (الجمال) ولكن السميع العليم يعلم ويسمع ما لا يعلمه أو يسمعه غيره.
ليالٍ حالكة جعلت من سيدة في زمن من الزمانات تفوق وتتفوق على الرجال في المقام والاحترام فلقبت بالهانم، كانت هانم البلاد وهانم تسوق العباد، حتى زوجها الهرم ساقته للهاوية كالدبة الحمقاء بعد أن هزمه العمر والمرض فهزمته هي بحماقة منقطعة النظير.
كان للهانم في تلك الزمانات أذرع هنا وهناك، ذراع ألقى بكاتب كبير في الصحراء عاريًا، وأذرع دفعت سيارة لدهس جميلة الجميلات وهي عصفورة الساحات والمسارح والشاشات، وكما كسرت الهانم أضلع الجميلة - كما اعتاد الناس - كسر ضلع الفتيات! فظهر لتلك الفتاة ٢٤ ضلعًا جديدًا أنارت بخفتهم الشاشة الفضية بعد ١٩ عام من التوقف والشلل والمرض والسرطان وكسرة القلب ولم تكن كسرة القلب للجميلة وحدها فطالت بكر الهانم بعد أن زوجته من شبيهتها لينتهي به الحال اليوم وحيدًا مطلقًا وقد فقد ابنه الكبير ولم يحب الشبيهة ولم يريد نسخة من حبيبته لأنه وببساطة  قد أحب الأصل لا المستنسخ، لقد أحب الشاب جميلة الجميلات ولكن الهانم أبت واستكبرت وغالت وأعتدت فكسر قلب اثنين وانجرف الشاب التعيس لدروشة التسعينات في فترة ظهور الدعاة على فضائيات نشر الوهابية الموجهه عله يجد هو وزوجته ملاذًا من التعاسة والروتين والبروتوكول والجبر طلبًا للسلام الداخلي الذي لم يجده وفقده للأبد أو على أقل تقدير (حتى الآن)، ورغم فقد الهانم لحفيدها لم يفت ذلك في عضدها رغم أن الفقد قد كسر قلب الرجل الهرم فأنزوى وترك زمام الأمور لمن لا يجيد القيادة فأنفلت الأمر وشجعت الهانم المدلل الصغير على ذلك الانفلات وباركته ليرث المتعجرف المستهتر ثقيل الظل كرسي أبيه وتسوق مايسترو البيت لعبتها المفضلة (لعبة الكراسي الموسيقية) فسقطت كل الكراسي ووقع أهل البيت على ظهورهم فانكسرت كما كسر ظهر الجميلة وطاردت الكارما تلك الأسرة بعد أن أصابتها اللعنات، فالظلم له آخر والجور والاعتداء يرتد على صاحبته وأصحابه ويتحول الصياد لفريسة والطاغية يصير هو الأضعف. وتمر الأيام والسنون ويسقط عرش الهانم وكل الهيلمان وتبقى الجميلة جميلة، فهي جميلة الجميلات وبلا جدال، الجميلة التي توارت إلى حين راضية محتسبة تاركةً حمولها على من لا يغفو ولا ينام وعدل سمائه اليقيني أعادها بعد كل ذلك ليعاد التاريخ كله من جديد ويتذكره أولو الألباب ففيه عبر وعباير لا يسهو عنها سوى أهل التواطىء والجور والكراهية والحقد ممن يحقدون اليوم على (أم الأبطال) بعد رحيلها إلى جوار زوجها بطل الحرب والسلام.
وكأن السهام التي توجه دومًا للجميلات لم تكن كافية، فيريدون لهن اليوم المزيد والمزيد من الطعنات ولكن هيهات، لقد كرم أولاد الأصول أم الأبطال بعد رحيلها بجنازة عسكرية هي الأولى من نوعها لسيدة في تاريخ مصر الحديث لنسترجع ولتعود لأذهاننا من جديد أمجاد ملكات مصر اللاتي حكمن في عهد أجدادنا الفراعنة، وتمشي الجميلة التي تشبثت بالحياة على أسنة السهام والخناجر لترقص بخفة فراشة واحترافية غزال لم يعد شاردًا على أنغام وكلمات تحكي قصة حياتها في دقائق كانت كافية ووافية فوصلت الرسالة للجمهور العريض الذي تلقفها واستوعبها بحب وحنين ونوستالجيا أعادت للأذهان أزمنة الجمال قبل أن يجد القبح والشر طريقه لحياة الجميلات، ورد أيضًا اعتبار الجميلة أم الأبطال بعد رحيلها بجنازة مهيبة وتكريم وعادت الفراشة بخفة وعذوبة ناعمة هادرة لتنسج فسيفساء استعراضية سيقت بدقة حرفي وحيوية راكب أمواج.
واستراحت الجميلتان وابتهج الجمهور العريض في الجمهورية الجديدة بتكريم (أم الأبطال) وبطلة (المشرقة) في هذه الليالي والأيام المباركة التي باركت للراحلة وللجميلة ما تبقى لها من عمر فظهرت كالزهرة الندية رغم الأشواك وكأن عمرًا لم يمر عليها وكأن أضلع لم تكسر لها بل وكأن الزمن قد توقف وعاد بها ١٩ سنةً للوراء ليعوضها في دقائق ما ضاع منها في سنين وللقاعدة العريضة دوماً الكلمة الفصل، تزول الممالك والعنجهيات وتبقى المحبة ويبقى الشغف في قلوب المحبين، فقلوب المحبين والعاشقين دومًا لها عيون، عيون القلب رأت وأحبت الجميلة أم الأبطال وأحبت الفراشة البيضاء، أما الهانم فقد طواها النسيان وصارت تاريخًا غير مشرف يحوطه الخزي ويعتريه الفساد بلا حاضر ولا مستقبل.
فالغد يعرف تمامًا كيف يعتني بنفسه ويجد دومًا مكانًا له ليصحح الخطأ ويثبت الصواب، طوبى لأم الأبطال فلقد لحقت بالبطل شهيد الغدر، وعودٌ أحمدُ لحلوة البلاد لقد كان هنالك تواقين ينتظرون طلتك المبهرة وكارهين حاقدين يهجون الجميلات في كل زمان وتستمر الحياة.. فهكذا هي الحياة وكل نفس بما كسبت رهينة وللإختيارات دومًا كلفتها، لقد اختاروا هم ولقد اخترن الجميلات طرائقهن والفرز وعد ومكتوب على الجميع.
وآن أوانه.. فكرمت من تستحق بعد رحيلها ورد حق من تستحق وهي مازالت على قيد الحياة ونالت كذلك (الهانم) ما تستحق.