رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلاوة زمان.. عروسة فستان

يأتى هذا المقال فى سياق الزخم الحوارى حول تغيُّر هُوية تاء التأنيث الذى أتى به الزحف الوهابى.

بداية، دعونا نتأمل المغزى المقروء بصريًا فى هذا الرداء «الفستان». دقق وستجد أن الفستان ليس رداءً مصممًا لتجسيد مفاتن المرأة وإظهار نتوءات الجسد، بل على العكس، هو مصمم لتلبية ثلاثة مطالب فى الرداء:

١- يطَوع الأقمشة الطرية والحريرية، بحيث تصبح مقبولة بوقار أنثوى يظهر قيمتها فمساحة الكساء واسعة نسبيًا، وفى المقابل تجد أن البنطال لا يحسن أن يكون من الأقمشة الحريرية أو الناعمة، وإلا سيبدو قميئًا ومائعًا وربما مثيرًا للفتنة البصرية لأنه يستجيب لاهتزاز النتوءات الأنثوية فى بدن المرأة.

٢- بحكم تصميمه، يضمن الفستان استيعابًا أفضل للأقمشة المزركشة بسبب اتساع مساحة القماش، ويسهل تصميم الخطوط المرسومة الهندسية وكذلك الرسومات المزركشة بالزهور والأغصان على النصفين بالتماثل المعقول.

٣- يركز تصميم الفستان عادة على ضيق الخصر وضآلة مقاس محيط البطن، وهنا تتوافر الفرصة لإظهار الأبعاد العريضة من البدن الأنثوى، وهما منطقتا الصدر والجزء السفلى من البدن.

عند تدقيق الترميز البدنى لوصف رسم الرجل والمرأة، كما تراه فى الصور الرمزية التى تصادفها فى الأماكن العامة عندما تتم الإشارة إلى المرفق الرجالى والآخر النسائى بالصورة والرمز دون الكتابة- تجد الفرق الوحيد هو محيط الخصر الضيق فى صورة المرأة، وفى المقابل تقرأ استقامة خصر الرجل بلا ضيق أو اتساع.

وفى سياق مختلف بعيدًا عن القراءة الجمالية لتصميم الفستان، يجرنا الحديث بتلقائية لفهم الملاءمة الوظيفية التى يتيحها ارتداء الفستان وهى سهولة الحركة فى السير أو العدو وسهولة الجلوس بلا شد القماش على البدن، كما هو الحال فى البنطال، هذا بخلاف القدرة الاستيعابية لترهلات الجسد الأنثوى التى يضمن تصميم الفستان سترها.

وعودة لاستعراض الأسباب التى أدت إلى انحسار وتقليص ارتداء الفستان وهجرة هذا النمط من الأناقة، سوف نستعرض أسباب شيوع البنطال النسائى والجلباب الرجالى فى بداية السبعينيات من القرن المنصرم كبديل للنمط الفرنجى الذى ساد مصر منذ بدايات القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين. 

فى الحقيقة، تزامن التغيير الدخيل على الشخصية المصرية مع ظهور التيارات الإسلامية التى استفحل أمرها فى السبعينيات وسمح النظام وقتها بغض البصر عن تغول الرمزية التى كست وجه التيار المتأسلم وأسهمت فى شيوع الحجاب والجلباب الرجالى، وتشجيع إطلاق اللحى وتداول المسبحة وتغطية الرأس وتفجرت النقلة فى البداية داخل الحرم الجامعى ومنه انطلق التغيير إلى خارج رحاب الجامعة.

تضمنت النقلة بعض التغيير فى الملمح وجاءت عبر الزى النسائى أساسًا الذى اتسم بالثوب الفضفاض، ومن ثم أدى إلى شيوع الحجاب كساتر لشعر المرأة الذى أدى بدوره إلى انحسار الفستان، وربما كان المحرك الأساسى لشيوع الحجاب وقتها هو كلفة التبرج النسائى وكلفة شراء مستحضرات التجميل والمغالاة فى أتعاب مصففى الشعر.

لم يدم الثوب النسائى الفضفاض وهو على شاكلة العباءة كونه لونًا واحدًا يشبه الزى الموحد وهو لا يصلح فى الأجواء الحارة والرطبة، وتمت الاستعاضة عنه بإدخال البنطال النسائى فى الخدمة، فهو يقبل الحجاب ويعد مريحًا، وبقى الجلباب من نصيب الفتيات السلفيات والأكثر تشددًا. 

تصادف فى نفس الفترة من أوائل السبعينيات حتى نهاية الألفية نزوح العمالة اليدوية وفئة الحرفيين والعاملين بحرفة الفلاحة إلى الخليج للبحث عن فرص أفضل للتكسب.

لدى عودة العمالة لم ينتبه أحد إلى أن هؤلاء البسطاء عادوا محملين ببعض الريالات وتبدل الملمح الوطنى من الجلباب الريفى والطاقية إلى الغترة الخليجية والثوب الأبيض القصير الذى لا يصلح لنزول الحقل والعمل فى حرفة الفلاحة من جديد.

من هنا بدأت تغيرات الهوية، وبالطبع صاحبها بعض التدين الشكلى والثقافى من حيث استخدام الكنية الأبوية فى الأسماء، وبدأت بوادر التنصل والتعفف عن امتهان الفلاحة والتوجه إلى تمدن القرى وتحول المناخ الريفى من وحدات منتجة للزراعة والدواجن والثروة الحيوانية إلى وحدات مستهلكة ذات قوة شرائية معقولة تنافس الحضر فى الاستهلاك الغذائى من الخبز والمعلبات والمجمدات.

أدت هذه النقلة النوعية إلى زغللة عين الفتاة الريفية التى التحقت بالدراسة الجامعية بالمدن، وسهلت رواج الزى الساتر الذى لا يشف ولا يصف، كما نادى به السلفيون.

ظهرت شركات ومحلات وماركات تحمل أسماء إسلامية مثل الزى البيرونى ومحلات التوحيد ومثلها محلات النور، ومن هنا كان التسابق على قتل الذوق والبهجة والاكتفاء بالملبس الساتر الرخيص حتى وإن كان رديئًا.

من يقارن الملمح الحضارى للطبقة الوسطى التى وثقتها السينما المصرية مع المعاصرة فى العقد الأول للألفية الجديدة يكتشف الفجوة الهائلة فى تدهور الذوق فى الملبس ولغة التواصل والمستحدثات اللفظية التى أدت إلى سوقية الحوار، وتبعها بالطبع تدنى لغة الفن وهبوط كلمات الأغانى وشيوع ضوضاء المهرجانات.

لعل الصحوة الأخيرة التى باتت منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعى التى تحمل فى ظاهرها دعوات لإحياء ارتداء الفستان من جديد ليس الغرض منها استعادة الأناقة أو الزى المهجور بقدر ما هى دعوة للتمرد على القهر الذى أتت به الإملاءات المتطرفة.