رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جيهان السادات.. أيقونة العطاء والتقدم للوطن

سيتوقف التاريخ طويلًا وكثيرًا ليسطر حروفًا من نور عن مسيرة وسيرة أيقونة وطنية مصرية، هى السيدة جيهان السادات، قرينة الرئيس الشهيد الراحل محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام، التى رحلت عن عالمنا الجمعة الماضى، لكنها لن ترحل من ذاكرتنا أبدًا.

وسنظل نذكرها بالخير نظرًا لما قدمته طوال حياتها الزاخرة من عطاء متواصل للوطن فى مجالات عديدة، يصعب الآن حصرها جميعًا، لكننى سأحاول أن أذكر هنا ما يمكن أن تسعفنى به ذاكرتى ومع المتاح من المساحة لمقالى.

إن جيهان السادات هى امرأة فوق العادة، هى امرأة من طراز نبيل واستثنائى كان يمكنها أن تعيش هانم مصرية وزوجة تقليدية لرجل مصرى عادى وثرى، نظرًا لملامحها الجميلة فى حياة مرفهة وعادية، لكنها التقت مناضلًا مصريًا ضابطًا شابًا فى صفوف المعارضة لحكم الملكية هو محمد أنور السادات، فأحبته، وحينما تقدم لها للزواج، بينما حياته فى خطر، وافقت ببصيرة نافذة، حيث رأت فيه ضابطًا شابًا يحب بلده، فأغرمت به، وكانت فتاة جميلة يافعة فى الخامسة عشرة من عمرها، فقررت الزواج منه، وتم ذلك فى ١٩٤٩.

ومن هنا بدأت قصة نضال وكفاح استثنائية لهما؛ من أجل العطاء لمصر، وكان محمد أنور السادات من الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة يوليو ١٩٥٢، التى أطاحت بالملكية وأعلنت قيام الجمهورية.. ثم تلا ذلك رحلة كفاح ونضال فى العمل السياسى وتولى المواقع المهمة، وفى كل خطوة وموقع كانت جيهان السادات تدعم زوجها وتسانده وتتحمل معه المسئولية وتبعات أى قرار يتخذه حتى تولى رئاسة مصر فى سنة ١٩٧٠، وحتى استشهاده فى ٦ أكتوبر ١٩٨١، وخلالها أخذ العديد من القرارات المصيرية الصعبة والمبادرات التاريخية التى فاجأت العالم برئيس مصرى ارتفع بمكانة مصر وحقق لها الانتصار والعزة ثم السلام الدائم.

أما جيهان السادات فإنها لم تكتف بدورها كقرينة لرئيس الجمهورية وقررت أن تخرج إلى العمل العام، وأن يكون دورها العطاء لمصر بجوار زوجها، وفى تفكير وخطوات سبَّاقة استطاعت أن تؤدى عدة أدوار فعالة ومؤثرة، جعلت منها أيقونة للعطاء وللتقدم فى تاريخ مصر الحديثة، وقصتها تستحق أن تعرفها الأجيال الشابة والأجيال من بعدها.

أحبت مصر وقدمت الكثير لشعب مصر ولتقدمها وللمرأة المصرية، ما يجعل منها امرأة استثنائية لا يجود الزمان بمثلها كثيرًا، وأفتخر بأننى عرفتها وبأننى جلست إليها وأنها كانت صديقة لأمى ولأم زوجى أيضًا، وعرفانًا بدورها فإننى لا بد أن أذكر دورها السبَّاق فى عدة مجالات، كما أنها فى رأيى قد امتلكت القدرة على اقتحام الحياة بقلب جسور، وكانت لديها طاقة هائلة على العمل والإنجاز، وكانت أيضًا لديها الشجاعة للقيام بمبادرات رائعة فى مختلف المجالات، فلقد استطاعت هذه السيدة النبيلة من خلال ما قدمته لمصر أن تحصل على عدة ألقاب يندر أن تحظى بها امرأة فى حياتها التى استمرت ٨٧ عامًا، فهى من أبرز رواد تحرير المرأة المصرية، وهى أُم الأبطال، وهى أم المصريين، وهى رفيقة كفاح الرئيس الشهيد محمد أنور السادات.

وهى أيضًا الأولى فى عدة استحقاقات فى تاريخ مصر: أول قرينة لرئيس مصرى تخرج للعمل العام، وهى أول قرينة لرئيس مصرى تفتح الأبواب من أجل تطوير قوانين الأحوال الشخصية، وهى أول قرينة لرئيس جمهورية تحصل على درجة الماجستير، وهى أول قرينة لرئيس مصرى تصبح نائبة فى مجلس الشعب، وهى أول قرينة لرئيس مصرى تدعم دخول ٣٠ سيدة فى مجلس الشعب المصرى بالتعيين، وهى أول قرينة لرئيس مصرى تصدر كتابًا عن حياتها، وهو كتاب «سيدة من مصر»، وهى أول قرينة لرئيس دولة تعطى محاضرات فى الجامعات الأمريكية، وهى أول قرينة لرئيس مصرى تقام لها جنازة عسكرية بعد وفاتها بقرار من رئيس الجمهورية.

وسيذكر التاريخ أنها فتحت الأبواب عندما كانت قرينة لرئيس الجمهورية، من أجل تقدم المرأة المصرية وتعليمها ومشاركتها فى العمل التطوعى، فقد كانت رئيسة لجمعية الهلال الأحمر، وكانت تذهب لزيارة ورعاية جرحى حرب أكتوبر ومعها سيدات مصريات متطوعات لرفع الروح المعنوية لهم، وكانت والدتى رجاء حجاج، وهى من أبرز رواد العمل الاجتماعى والخيرى، تشاركها وترافقها فى رعاية جرحى حرب أكتوبر المجيدة.

وفى يوم وفاتها ساد حزن كبير فى البيوت المصرية عليها، لأنها حظيت باحترام كبير ومكانة رفيعة فى قلوب المصريين والمصريات، أما بالنسبة لى، فإننى أعتز بأننى عرفتها والتقيت بها وجلست معها وأحسست بشخصيتها المحترمة المحبة لبلدها ولشعب مصر وتقدم بلدها ولرفعة شأن المرأة فى بلدها، وكانت تشجعنى على النجاح فى عملى وتحرص على السؤال عن والدتى كلما التقيت بها فى محفل عربى أو مناسبة اجتماعية.. وكانت ذات عطاء لأسرتها، كما كانت محبة لصديقاتها تحرص على اللقاء بهن بعد وفاة الرئيس السادات، وأعتز بأن والدتى رجاء حجاج كانت من صديقاتها وكانت أيضًا حريصة على السؤال دائمًا عنها عقب أزمة صحية تعرضت لها فى سنة ١٩٩٩.

وسيذكر التاريخ لها أيضًا أنها دعت للتمكين السياسى للمرأة، وأتذكر أننى فى بداية عملى الصحفى فى بلاط صاحبة الجلالة التقيت بها أثناء رئاستها قرية الوفاء والأمل، وحرصت على تهنئتها على هذا العمل الجليل فى رعاية الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، ورأيتها وهى تحنو عليهم وتهتم بتلبية احتياجاتهم بقلب أم حنون.

كما تشرفت بدعوتى إلى بيتها بالجيزة، حيث كانت تستضيف على دعوة للغداء المطرب العالمى جزائرى الأصل إنريكو ماسياس، الذى جاء ليحيى حفلًا خيريًا فى دار الأوبرا المصرية، وأتذكر أن الغداء كان بسيطًا وأن ابنتيها لبنى وجيهان كانتا تشرفان بنفسيهما، على راحة الضيوف، مما يعكس تواضعًا ورقيًا وكرمًا فى الأخلاق لهذه الأسرة الوطنية النبيلة، كما تسنى لى تقديم واجب العزاء لها فى وفاة زوج بنتها، وكانت تقف لتقبل العزاء بكل احترام ونبل، وفى السنوات الأخيرة جاءت لتزور والدتى فى بيتنا لتقديم واجب العزاء فى أنيس منصور، زوج والدتى المفكر والكاتب الكبير، الراحل فى أكتوبر ٢٠١١، وحرصت على الحضور وعلى مواساة والدتى فى رحيل شريك حياتها على مدى ٤٧ عامًا، والذى كان مقربًا للرئيس الراحل أنور السادات، والذى اختاره لتأسيس مجلة أكتوبر الأسبوعية تيمنًا بانتصارات أكتوبر ولتخليد ذكراها ودعمًا لها.

وكان «السادات» يخص أنيس منصور بأخبار مهمة وانفرادات صحفية من خلال حوار أسبوعى معه، وكان يلتقى به كل ثلاثاء، للحديث معًا فى موضوعات الساعة وفى الشئون الوطنية، وكان يكلفه بمهمات وطنية على أقصى درجة من السرية، وكان للرئيس السادات مكانة خاصة فى قلبه، فكان يقول لنا عنه إنه رئيس سابق لعصره، ولديه نظرة ثاقبة فى مستقبل مصر وإنه لديه دهاء فطرى، ودهاؤه الفطرى هو الذى جعله يأخذ قرارين غيّرا من مصير مصر، أحدهما قرار حرب أكتوبر والثانى قرار زيارة إسرائيل ومبادرة السلام، ويوم استشهاد السادات كان أنيس منصور معه فى المنصة وكانت السيدة جيهان السادات معه وكانت حزينة فى شموخ ونبل، وتم نقله إلى المستشفى، وظلت هى معه فى المستشفى بعد إطلاق رصاصات الغدر عليه فى ذكرى يوم الاحتفال بانتصارات أكتوبر، حيث استشهد فى ٦ أكتوبر ١٩٨١، ووقفت هى فى شموخ فى جنازته المهيبة عند المنصة تتلقى العزاء هى والأسرة الكريمة التى لكل أفرادها مكانة عزيزة فى قلوب المصريين، كما تسنى لى الجلوس إليها فى ٢٠١٩ فى منزل والدة زوجى عنايات عبداللطيف، وهى أيضًا صديقتها، حيث كانت قد أجرت عملية جراحية، وكانت معها السيدة عائشة الملا صديقتها المقربة وحماة وزير البترول د طارق الملا، وتطرقت الأحاديث إلى الذكريات المشتركة والشأن العام.

وإذا كانت السيدة الفاضلة جيهان السادات قد رحلت عن الدنيا بجسدها، فإن ذكراها باقية فى قلوب المصريين، وستظل دائمًا حاضرة فى تاريخ مصر لا تغيب كأيقونة عطاء للوطن الغالى ولتقدم المرأة المصرية.