رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"أسمهان" أصل الغناء وُلدت وماتت فى الماء "أصل الحياة"

فى يوم 25 نوفمبر 1917، وعلى سطح سفينة "بحرية" منحتنا الأميرة علياء المنذر، طفلة تحمل دمها وموهبتها وطموحها ومأساتها، "آمال الأطرش" هكذا أسمتها الأم ربما يوافيها القدر، وتعوض "آمال" الأسرة الشريدة المطاردة المهاجرة من سوريا إلى مصر.
كلما تذكرت عائلة "آل الأطرش"، العريقة، المناضلة، التى تترك وطنها فى جبال الدروز، إلى سهول مصر لتأمن على نفسها من اضطهاد الاحتلال الفرنسى، اقتنعت أن التحديات توجد، لكى نتغلب عليها، وكلما تأكدت أن "الموهبة" الفطرية التى تحافظ على نفسها من جيل إلى جيل، وتأبى التراجع والاستكانة وقبول الواقع لا أحد يستطيع قهرها حتى لو كان جبروت الاحتلال الأجنبى وجبروت الفقر وجبروت اليأس.
كلما تذكرت الأميرة علياء، تغنى وتعزف العود فى الحانات، لكى توفر الحد الأدنى من المسكن والطعام لأولادها "فريد، آمال، فؤاد"، بعد أن كانت أميرة معززة مكرمة، تيقنت أن "الأمهات"، هن حقًا سبب استمرار الحياة، وأنهن لا يكترثن بالمناصب والألقاب ويطحن دون ندم بالحسب والنسب والجاه والسلطان لو تعرض أولادهن، وبناتهن للخطر.
أعترف أن "أسمهان"، هى استثناء، هى التى أجد فى صوتها، الحزن الذى أريد أن أحزنه، فى صوتها المرارة التى أتذوقها منذ ميلادى فى صوتها العزاء الوحيد الذى يصبرنى على حياة لا أحبها، وأناس غرباء عنى، أجرى إلى صوتها كلما اشتقت إلى البكاء النبيل وبخلت السماء بالمطر، وكلما احتجت إلى جذورى لألتصق بها وكلما تشبثت بالاستغناء التى أوصتنى به أمى "نوال" هى الفرح والحزن والشجن فى نغمة واحدة هى التى ألفتها.
هذا العام فى 14 يوليو، الذكرى السابعة والسبعون لرحيل أسمهان، لا أسمع "اسمهان"، فى إذاعة الأغانى التى تتخصص فى الأغانى وتذيع فى فترات خاصة مساحات لبعض المطربين والمطربات ليس منها "أسمهان".
ولا أسمع "أسمهان" فى حفلات تكريم أو فى مهرجانات الموسيقى العربية لا أدرى أين ذهبت "أسمهان"؟ لا أدرى أين أخفوا "أسمهان"؟ لا أدرى كيف دفنوا "أسمهان"؟ كيف تمر ذكرى رحيلها وذكرى ميلادها دائمًا بهذا الإهمال البشع وهذا النسيان الجاحد المخزى؟.
ولا أدرى السبب، منْ المستفيد من هذا الإهمال والتجاهل والنسيان لموهبة مثل "أسمهان" أم ورثة بعض المطربات المشهورات؟ أم رغبة مطربات على قيد الحياة ليس من مصلحتهن أن نسمع "أسمهان"؟.
وُلدت فى الماء المالح، ماتت فى الماء العذب ومن الملح، والعذوبة، كانت خيوط صوتها ونسيج مأساتها، أيها النائم.. أنا اللى أستاهل.. يا طيور.. يا حبيبى ألحقنى شوف اللى جراللى .. فرق ما بينا ليه الزمان.. دخلت مرة جنينة.. كان لى أمل.. نويت أدارى آلامى.. رجعتلك يا حبيبى.. يا بدع الورد.. أنا أهوى.. ياللى هواك شاغل بالى.. أسقنيها.. ليت للبراق عينا.. أمتى هتعرف أمتى.. الليل.. إيدى فى إيدك.. انتصار الشباب.. الشروق والغروب.. مجنون ليلى.. غير مُجد فى ملتى واعتقادى.. الشمس غابت أنوارها.. هذه من بعض الكنوز التى تركتها لنا "أسمهان" دون وصية أخيرة.
أما لحن "ليالى الأنس فى فيينا" الذى أهداه "فريد" لها فأعتبره عملًا موسيقيًا ينافس أفخم وأشهر المؤلفات الموسيقية العالمية، لحن درامى ملحمى متعدد المقامات والمشاعر المتناقضة والجمل الموسيقية المبهرة فى عنفوانها ورشاقتها وسلاسة تحولها من إحساس لآخر.
هل أحس "فريد" بحدسه العاطفى والإبداعى أن أخته ستواجه مأساة غامضة، فأراد أن يهديها عصارة مشاعره وموهبته وحبه ليكرمها ويختم حياتها القصيرة بلحن من ألحان الخلود؟
ومن الصعب أن نصدق أن "ليالى الأنس فى فيينا" من كلمات أحمد رامى قد أبدعه "فريد" وهو فى مقتبل العمر فى عام 1944، على الدرجة الأولى من سلم المجد ويقف شامخًا مع ألحان القصبجى والسنباطى (جهابذة التلحين فى ذلك الوقت) وقوف الند للند إن لم يكن أكثر تميزًا.
أول فيلم لفريد وأسمهان معًا كان "انتصار الشباب" 1941، إخراج أحمد بدرخان 18 سبتمبر 1909 - 26 أغسطس 1969، يحكى بعضًا من سيرة فريد وأسمهان الحقيقية، كيف من بؤس العيش إلى بداية الطريق نحو تحقق الموهبة وانبهار الناس وقبل أى شىء، تحقق أمنية "الأم" الأميرة علياء المنذر، وهى ترى أن جهدها وتضحيتها وشقاءها لم تذهب هدرًا.
أهدى "فريد" لأخته "أسمهان" الذى كان يراها توأم روحه أغنيته الشهيرة النازفة بجزع الفراق، وذهول الحزن "كفاية يا عين"، وفى كل مرة يشدو بها كانت الدموع تسبقه إلى أحبال صوته، وأوتار العود.
إحساسى ينبئنى أنه حتى لو "هلكت" الأرض، فإن "أسمهان" سوف تنجو، فمنْ وُلد ومات مثلها  فى "الماء" لا يضيع.
"الماء" و"أسمهان" متشابهان، الماء أصل الحياة وأسمهان أصل الغناء، الماء ينظف ويطهر وينقى وينعش، وهكذا تفعل أسمهان، تنظف وتطهر وتنقى وتنعش.. هل يُعقل لمنْ غرقت فى "أصل الحياة" أن تختفى؟