رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أبى أحمد».. على طريق تيجراى فى الذهاب والعودة

 

يبدو أن رئيس الوزراء «أبى أحمد» بعد مرور تلك السنوات فى الحكم، وبعد كثير مما جرى خلالها ما زال أسير «العُقد» العِرقية الداخلية، كون أحمد ينحدر من قومية «الأورومو» كبرى إثنيات إثيوبيا، والتى على مدى التاريخ ينظر إلى أبنائها باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، مما جعل شعور الدونية قابضًا وخانقًا على من ينتمون إلى الإقليم والعرقية بصورة متجذرة، أمام عرقيات وإثنيات أخرى ظلت على مر الزمن تمارس عليهم حالة استعلاء وتطلق عليهم تسميات عنصرية تحط من قدرهم، أقرب للوضع الذى كان السود يتعرضون له فى الولايات المتحدة حتى منتصف القرن الماضى.

وإحدى أشهر هذه العُقد الكامنة لدى أبناء الأورومو أن عاصمة إثيوبيا «أديس أبابا»، تقع فى إقليمهم، ورغم ذلك يحظر عليهم التعامل بلغتهم الأم، وفرضت اللغة الأمهرية عليهم بشكل ساحق، وعلى آخرين من أبناء العرقيات الأخرى بصورة أقل حدة. 

المظاهرات وحالة الاحتجاج العنيف التى اندلعت فى إقليم الأورومو ٢٠١٨، خرجت وفى خلفيتها الكثير من موروثات الماضى، بداية من الحقبة الملكية الإمبراطورية، التى ظلت لما يزيد على خمسة عقود تنظر إلى هذه العرقية باعتبارها غير جديرة ولا لائقة للحضارة التى تحاول إثيوبيا الحديثة تصديرها عن نفسها للمجتمع الدولى. وكان اختيار «أبى أحمد» الأورومى لأول مرة لمنصب رئيس الوزراء، من العرقية التى تبلغ «٤٠ مليون نسمة» من أصل ١١٥ مليونًا هو تعداد إثيوبيا، مبشرًا بحالة مصالحة عرقية داخلية سرعان ما انتكست بعدما تكشف أن أحمد قرر أن يمتطى حصان الأمهرة فى سعيه للانقضاض وتحطيم النظام الفيدرالى، بل وبدأ سريعًا فى الإطاحة بقيادات من الإقليم، مثلما جرى الأمر مع «ليما ميغيرسا» وزير الدفاع السابق، رغم أن الأخير هو الذى رشح أبى للمنصب بعد الاحتجاجات الكبيرة التى أطاحت بديسالين.

وهناك مكونات وشخصيات عدة تعرضت لتنكيل «أبى أحمد» داخل إقليمه، عندما اعتبرهم منافسيه والقادرين على إبعاده سريعًا والتشكيك فى مشروعه «الإصلاحى» المزعوم، حيث جاءت جريمة اغتيال المطرب والشاعر «هاشالو هونديسا» السجين السياسى الذى تحول إلى نجم موسيقى، وأشعلت أشعاره شرارة احتجاجات الأورومو. والمثير أنه فى نفس الوقت الذى حاز خلاله «أبى أحمد» سريعًا على «جائزة نوبل» للسلام، كان داخليًا يطيح برموز أورومية مثل «جوهر محمد» الذى يواجه الآن تهمًا تتعلق بالإرهاب والتحريض على العنف، مما دفع المؤتمر الفيدرالى الأورومى الذى ينتمى إليه «جوهر محمد» وجبهة تحرير أورومو، لمقاطعة الانتخابات العامة التى أجريت منذ أسابيع.

هذه «العقد» الإثنية، ورغبة «أبى أحمد» المحمومة للانعتاق من وطأة مكانته العرقية الأورومية المتدنية، هى التى تدفع به تجاه مغامرات وقفزات فى المجهول بدأها بوضع كامل مراهنته على عرقية «الأمهرة»، باعتبارها قادرة على حمله إلى ضفاف حلمه الإمبراطورى الذى كانت تهمس له أمه «الأمهرية» به، كما ذكر أحمد بنفسه ذلك مفتخرًا بتحقق النبوءة.

وإن كان توليه السلطة فى حقيقته لا يعدو كونه جاء بمواصفات احتاجتها الأطراف الدولية حينها فيمن يتولى مقاليد الأمر فى إثيوبيا، بأن يكون من «الأورومو» للمرة الأولى فى تاريخ إثيوبيا، من أجل نزع فتيل الحرب الأهلية العرقية التى كانت تنذر بها الأحداث حينها، وأن يكون قادرًا على تجاوز الإشكاليات الناتجة عن هذا الموروث الإثنى المعقد، أو هكذا وعد وكلف من قبل مستخدميه فى مرحلة التلميع المركزى التى حظى بها.

وهو اليوم وقبل أن يجفف صورته ومكانته بعد شهور قضاها فى «مستنقع» إقليم «تجراى»، يقف مبللًا بالهزيمة المذلة سجينًا لحالة متقدمة من إنكار الواقع، عندما تحدث أمام البرلمان، الإثنين الماضى، رافضًا اعتبار انسحاب الجيش الفيدرالى مؤخرًا من إقليم «تيجراى» شمالى البلاد، بمثابة خسارة للحرب. مؤكدًا أن الصراع الذى استمر ثمانية أشهر ضد من سماهم بـ«المتمردين» فى تيجراى قد أضعف جبهتهم، وأن جيش بلاده لا يزال يمتلك القوة لكى يقاتل مجددًا، خاصة أن حكومته تستطيع بـ«سهولة» تجنيد مليون مقاتل جديد، لكن من وجهة نظره ثمّة حاجة إلى سلام حتى تتقدم البلاد.

رئيس الوزراء الإثيوبى بعدما قطع كل أشكال الاتصال الفضائى والإعلامى عن إقليم «تيجراى»، وصارت المعلومات عما يجرى هناك مقيدة تمامًا لشهور وآخرها مفاجأة الإعلان المنفرد لوقف إطلاق النار من جانب واحد، نزوعًا إلى سلام لا يدرك أحد مكوناته أو قدرته على إنفاذ البعض منه- اضطر على إثر ذلك «جبهة تحرير تيجراى» لأن تقوم باستعراض طويل لمسيرة ضخمة جاب فيها عناصر الجبهة العاصمة «ميكيلى» طوابير من أسرى الجيش الإثيوبى الفيدرالى قدرت أعدادهم بنحو «٧٠٠٠ أسير»، لتقوم عناصر الجبهة أثناء ذلك بتصوير هذه الأعداد الهائلة من الجنود بملابسهم الرسمية «الممزقة» وتوزيعها على وسائل الإعلام، من أجل دحض رواية «أبى أحمد» المزيفة.

وفى الوقت الذى لم يشر «أبى أحمد» من قريب أو بعيد للشروط التى وضعتها جبهة تيجراى، فى سبيل موافقتها على وقف إطلاق النار الذى أعلنت عنه الحكومة فى أديس أبابا، ففى الوقت الذى تلقى فيه أحمد صدمة لم يتوقعها من العرقية التى حاول إخضاعها، والانتقام من سيطرتها على الحكم لعقود- تتحرك الجبهة فى اتجاهات جديدة ظلت متوقعة، منها ما أفصحت عنه مباشرة، وهو ما يتعلق بضرورة خروج كل القوات الإريترية وقوات الأمهرة التى مثلتا قوة الإسناد الضاربة فيما جرى على أراضى الإقليم.

وهناك فريق قانونى يقوم بعملية توثيق واسعة بدأت سريعًا بحصر كل الانتهاكات والمذابح وأعمال العنف الجنسى التى تكبدها إقليم «تيجراى» جراء القتال، من أجل رفع الأمر بالوثائق والشهادات للمساءلة الدولية بحق كل من «أبى أحمد» و«أسياس أفورقى».

إحدى النتائج المهمة التى تحققت مؤخرًا فى انتصار إقليم تيجراى، هو استعادة سيطرة قادة الجبهة على مطار «ميكيلى» وهذا يفتح الباب إنسانيًا لوصول المساعدات المُلحة، لكن فى جانب آخر منه يفتح النوافذ أمام الأعين والمحققين والمراقبين، الذين يتجمع لديهم ملف متخم بحجم الكوارث التى ارتكبها نظام أديس أبابا خلال الأشهر الماضية.

فوفق الأمم المتحدة تخطى أكثر من «٤٠٠ ألف شخص» فى تيجراى وحدها حد المجاعة، بينما يقف نحو «١.٨ مليون» آخر على حافتها، فى الوقت الذى تمكنت الجبهة فيه من استرداد كميات كبيرة من العتاد والذخيرة والأسلحة التى تركها الجيش الإثيوبى خلفه، بما فى ذلك بطاريات المدفعية الثقيلة، ومنصات صواريخ الدفاع الجوى، وهو إيذان بدخول أديس أبابا فى معادلة اختلال قوى كبير فى غير صالحها، بالنظر أيضًا إلى أن «أبى أحمد» لن يتمكن خلال الفترة المقبلة بمجرد التفكير فى استئناف القتال، فقد نزعت عنه الذرائع والأنياب لفترة ما زال يلملم وحده جراحها.