رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فقه الأغلبية

من المؤسف أن يظن البعض أن لفظ «الأغلبية» هو مرادف للتفوق العددى بين فصيلين أو أكثر.

أدى الفهم الخاطئ لهذا المصطلح على هذا النحو إلى تغول واستقواء الفئة المميزة عدديًا، مما تسبب فى الظلم المجتمعى وافتراس حقوق الأقليات.

بداية، دعونا نفهم أصل الاشتقاق اللغوى لهذا اللفظ، ومن ثم فهم المعنى الاصطلاحى، فمن الناحية اللغوية، يأتى اللفظ ضمن الغلبة العددية بمعنى التفوق العددى، وهنا لا يتعدى الأمر كونه مقارنة أو مضاهاة رقم بآخر، حيث يشير لفظ الأغلبية «وعكسه الأقلية» إلى التفوق العددى، أما اصطلاحًا، فقد ذهب البعض بهذا المصطلح إلى دائرة النفوذ والتسلط والفوز ترجيحًا كونه مطلبًا للأغلبية التى تفوقت إحصائيًا على الأقلية.

فى الحقيقة، لا تكتسب الأغلبية العددية تفوقًا أمام الأقلية العددية استنادًا لعدد المصوتين لها، ومن ثم يجب التنبه إلى خطورة التفرد بمزايا أكبر أو بنفوذ أو صلاحيات اختيار يحرم منها فى المقابل فريق الأقلية.

فى التصنيف الحقوقى، لفظ الأغلبية يعنى إتاحة مساحة أوسع للأغلبية للتمتع بالاختيارات، ولكنه لا ينفى أبدًا ولا يتجاهل مساحة تناسب الأقلية.

فى سياق تحديد فئة الأغلبية مقابل الأقلية، تجد أن المعاجم اللغوية للثقافات الغربية قد عالجت فهم هذه الفروق بدقة، ففى اللغة الإنجليزية «مثلًا» يأتى معنى التصويت «Vote» مغايرًا لمعنى الانتخاب «Election»، وكلاهما مختلف عن لفظ الاختيار «Selection».

فى قاموس الثقافات الغربية تجد أن الفهم الاصطلاحى لمعنى الأغلبية يختلف تمامًا عما هو دارج فى ثقافتنا الشرقية، فبينما هو تفوق عددى فى المعيار الشرقى، تجده مرادفًا لعناصر القوة أو السلطة أو السيادة فى المعيار الغربى، لذلك، قد يفوز فريق قوامه العددى أقل على فريق منافس قوامه العددى أكبر بسبب تمتع الأول بملكات القوة أو السطوة أو النفوذ المالى أو السياسى التى لم تتح للمنافس الأقل عددًا.

هذا السند- سند الاعتداد بالقوة- اعتمدته الأمم المتحدة لدى التصويت على القرارات ومنحت بموجبه خمسًا من الدول، وهى دائمة العضوية، حق النقد والمعروف بحق الفيتو «Veto» وهو حق الاعتراض، بل هو حق «إجهاض» للقرار وليس مجرد الاعتراض على أى قرار يقدم لمجلس الأمن دون إبداء الأسباب، وهذا الحق يمنح للأعضاء الخمسة دائمى العضوية فى مجلس الأمن وهى: روسيا، الصين، المملكة المتحدة، فرنسا والولايات المتحدة.

وقد يتبادر للذهن ضرورة التأكد من عدالة الاحتكام إلى عنصر القوة لدى التصويت العددى فى أمر ما، ومدى عدالة أو جور هذا المبدأ.

فى الحقيقة، تجد أن أقدم من اعترف بسند المفاضلة بعيدًا عن التفوق العددى هو الشرع الإسلامى عندما جعل مبدأ الشورى وسيلة احتكام لدى البت فى أمور الدنيا، والشورى تعنى فرصة مطلقة لترجيح رؤى الحكماء والقامات، ولو دققت بيئة العمل وقارنت عدد الموظفين فى مقارنة مع الجهاز الإدارى، لتفوقت رغبات المرءوسين على قرارات الإدارة لدى التشاور فى أمور العمل.

إذن من المقبول الاعتداد بعناصر الترجيح لدى منح لقب الأغلبية مقابل الأقلية استنادًا للأسباب السالف ذكرها، وتعالَ لنأخذ بعض الأمثلة:

١- يمثل الأصحاء من البشر أغلبية عددية أمام الفئة التى تستخدم كرسى الإعاقة المتحرك، ومع ذلك، لدى تصميم الأرصفة وارتفاعاتها وتصميم بوابات الدخول للمرافق العامة، لا بد من تحديد مسار للكرسى المتحرك حتى وإن تضاءل عدد مستخدمى كرسى الإعاقة.

٢- فى المطاعم هناك كرسى مرتفع مخصص للطفل بحزام حافظ يتيح للأم التمتع بالوجبة «Baby seat»، بينما يجاورها الطفل ويحظى برعايتها هو الآخر دون تعطيل ليديها أثناء تناول الطعام، وبالرغم من قلة هذا الاحتمال، لا بد من تخصيص وإتاحة هذا المقعد.

٣- التصويت الاستفتائى فى البرلمان هو نوع من الافتراس الحقوقى للبشر، فهو لا يمثل سوى الاستجابة لرغبة «العدد الأكبر» دون التمييز بين صواب الاختيار وسوء الفهم، رأينا فى برلمان السلفيين والإخوان فى أوج كثرتهم كيف أن التصويت العددى راجح الكفة وهو خال تمامًا من المنطق.

٤- وجود شخص واحد مريض بالصرع مع أسرة من خمسة أشخاص يتفوق عليهم حقوقيًا فى ضرورة وضع قيود تؤمن حياته، كما أن وجود مريض بضغط الدم المرتفع وسط عائلة من الأصحاء يمنحه الحق فى طهى الوجبة دون ملح، وعلى كل متذوق أن يضيف الملح لاحقًا.

٥- استلزم الأمر تخصيص عربتين فى مترو الأنفاق للسيدات مقابل ست عربات للرجال وفق فقه الأغلبية مقابل المقارنة العددية، وهو أمر ظالم للنسوة على أرض الواقع جراء الزحام الشديد بالعربتين.

فى شوارع لندن، يمكنك تجميد حركة الحياة من حولك بالضغط على ذر تبديل إشارة السير لتقطع الطريق على مهل عندما تعوزك الهمة أو سرعة الحركة، وهذا الإجراء ميزة مُنحت لقلة نادرة من البشر قد تتصادف حاجتهم لعبور الطريق بشكل استثنائى.

فى النهاية قد يستلزم الأمر إعادة النظر فى مفهوم «الكوتة» الفئوية، إذ لا يصح إتاحة الحقوق وفق الأعداد، فالحق منزه عن أعداد المطالبين به.