رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المال العام .. ورؤوس حان قطافها!

تلاحظ لصاحب المنزل أن "الدجاجة المطهوُّة " التي قدمها له "الطاهي الخاص" على مائدة الغداء.. ذات ساقٍ واحدة! وحين قام بالسؤال مستفسرا  أفاد "الطاهي" بأن "المرحومة" ــ كعادة الدجاج ــ كانت تقف على ساقٍ واحدة لحظة تفاعل نصل السكين في رقبة المسكينة؛ وقد تم طهوها على هذا الحال! وبالتأكيد .. فإن الساق المبتورة ذهبت إلى غير رجعة في رحلة إلى بطن هذا الطاهي اللص خائن الأمانة؛ صاحب تلك السذاجة المُفرطة في تبرير جريمته الشنعاء. 

بشرة صافية وشابة !! هل تودين ذلك ؟
 
 والموضوع على طرافته .. أسوقه كمثال ودلالة؛ لكنه مُحزن، مُخجل، مُشين، يشي بدناءة الطاهي وسرقته العلنية الفجَّة، ولكنني ــ  كباحثة أكاديمية ــ أجدها مدخلاً جيدًا للحديث عما يدور هذه الأيام على الساحة في الشارع المصري؛ والحديث الذي لاينقطع عن الجرائم المتتالية بتفنن البعض في سرقة المال العام وإهداره بالطرق غير المشروعة التي غابت عن أعين "إبليس" نفسه؛ وأيضًا أجدها فرصة لمحاولة دراسة علاقة هذا الموضوع بمقولة شائعة ــ صارت مثلاً ــ  تقول: "إن فاتك الميري.. إتمرَّغ في ترابُه" ! ومن المُمكن أن تكون تلك المقولة تم إفرازها وتحميلها على اللغة والأمثال الشعبية الدارجةعلى لسان العامة؛  ربما تكون قد دُبِّجت منذ هجمات مجموعات الفدائيين على معسكرات الإنجليز أيام الاحتلال؛ أو من قِبَل العمال في تلك المعسكرات التي كانت تسمَّى ـ وقتذاك ـ بالـ "أورنُوسْ"؛ أو السطو على مخصصات الوزارات والمصالح التابعة للحكومات المتعاقبة على الحكم والتبرير بأن سرقة المُحتل "حلالٌ حلالٌ حلالٌ .. حلال" ولا جُرم فيه .. أقول: ربما! ولكنها صارت نهجًا وسبيلاً على طول السنين وتوارثته الأجيال دون البحث ــ  كما يقولون ــ عن أصلها وفصلها!!
 
 لقد فاقت المسألة  كل الحدود والتصورات؛ وبخاصة أن هذا الـ "ميري" لا يمثل كنوز وتراث مصر المحروسة فحسب.. بل يمثل تراث البشرية والإنسانية جمعاء منذ فجر التاريخ، وليس بخافٍ على أذهانكم المستنيرة أنه إذا كانت هناك على طول الزمان وقائع تمثل هذا الـ "فساد".. فلابد له ـ على الشاطئ الآخر من نهر الحياة.. من وجود العديد والعديد من اللصوص والـ "مفسدين" !
 
 ونحن بدورنا كنَّا ـ  في خجلٍ ـ نسوق بعض العذر لأصحاب اعتناق هذا الفكر بالتعلل بأننا تحت نير الاحتلال البغيض وبمبدأ: "اللي ييجي منهم أحسن منهم"! ولكن ونحن الآن  ـ تحت القيادة المصرية الوطنية المخلصة ـ نعيش أزهى عصور مصرنا المحروسة: سياسيًا واجتماعيُا وأمنيًا واقتصاديًا وعسكريًا؛ ونسعد بفرحة الانتصار باستعادة مكانتها التي تليق بها بين دول العالم؛ ونتمتع بكل مقومات المواطنة الصالحة والحرية الكاملة ونعمة الانتماء ، نتساءل: ما هي الأعذار التي نسوقها لهؤلاء الذين توحشوا ـ الآن ـ  في التحايل بشتى الطرق للاستيلاء على المال العام؟ المتمثل في أصول الدولة وممتلكاتها فوق الأرض وتحت الأرض؛ وعدم الاكتفاء ـ كصاحبنا الطاهي ـ بسرقة ساق الدجاجة؛ وامتدت سفالتهم وأطماعهم إلى أحشائها وكبدها وقلبها؛ وذلك بالحفر والتنقيب ــ أسفل جدران المنازل في الريف والحضرــ  بحثًا عن خبيئات كنوز الفراعنة من الذهب وبرديات الأسرار العلمية التي تحفظ أسرار هندسة البناء والتحنيط التي سبقوا بها كل الحضارات ومنحتهم تميمة الخلود.
 
وهنا .. وأمام كل هذه الاكتشافات الموثقة بالصوت والصورة؛ والتي تمت بمعرفة رجال الأمن الوطني وبتعليمات من مكتب الرئاسة مباشرة بتنظيف الوطن من كل الموبقات التي تلطخ ثوبنا ناصع البياض؛ توالي سقوط العشرات من "فئران التاريخ والجغرافيا" الذين بات كل شاغلهم الشاغل "ثقب قاع السفينة" ونهب ما تصل إليهم أياديهم الملوثة من أموال عامة وخاصة؛ كان لا مناص من وقفة جادة في وجه هؤلاء للمحاسبة أمام القانون والأعراف التي تدين أفعال هؤلاء المتمردين على إطار الولاء والانتماء والوطنية الحقَّة؛ والوقوف داخل قفص الاتهام ــ والقيود الحديدية في أياديهم ــ  تمهيدًا للدفع بهم خلف القضبان؛ انتصارًا لحق الوطن والمواطن في التمتع بممتلكاته المادية والعينية؛ وإغلاق الثغرات القانونية والأبواب والثقوب التي تدلُف من خلالها جحافل الفئران.
 
ونحن أمام كل هذا النهب المُمنهج والمنظم والمرتبط بحلقات سلسلة شبكات العصابات الدولية؛ أتمنى أن أقف في ميدانٍ عام ــ وبجانبي زمرة المثقفين والأدباء وقيادات القوى الناعمة المصرية ــ وأصرخ صرخة الحجاج بن يوسف الثقفي: "إنني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى"!، أقول: أتمنى! ولكنني أهيب برجالات الدولة من حكمائها وقضاتها بالقصاص من هؤلاء في محاكمات علنية على الرأي العام المصري والعربي؛ لأننا لسنا دعاة مظالم تنتهي بسفك الدماء بلا سندٍ أو دليل؛ وحتى يعرف المواطن الذي يبذل الجهد وينضح العرق  في ميادين العمل والحقول.. أن قيادته الوطنية تمتاز باليد النظيفة التي تحافظ على كرامة الوطن ورفاهية المواطن قدر ما تتحمل وتطيق؛ وتعمل على إرساء مبادئ العدالة مغمضة العينين بلا محاباة أو مجاملة.
 
إن جموع الشرفاء في وطننا العزيز؛ تنتظر تحقيق العدالة باستصدار القوانين الرادعة التي لا يأتي الباطل إليها من الأمام أو الخلف؛ وهي القوانين التي لا تقبل التواطؤ لصالح فئة ضد فئة؛ أو تفضيل جماعة على جماعة أخرى؛ وبخاصة تلك الجماعات التي تحتمي بعباءة الدين؛ والاختباء خلف ظلال العباءة والمسبحة، وفي كل الأحوال ـ نحن ـ لا ننصر فئة على فئة إلا بالقانون وإعلاء الحقيقة .. ولنشاهد تمثال "العدالة" مغمضة العينين؛ إلى جانب المسلة التاريخية بميدان الحرية والكرامة .. الشهير بـ "ميدان التحرير"!

  • أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون