رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تناقضات الدعاة السلفيين

اعتاد الدعاة المحسوبون على الاتجاه السلفي التقليدي، "الذي يُعتبر أحد إفرازات المدرسة الوهابية" منذ عقود، على تبني مواقف يصحبها جدل كبير، وذلك في ضوء تعارض هذه المواقف مع المقولات الرئيسية المكونة لعقل الاتجاه السلفي، فضلاً عن كونها تمثل هدماً لمواقف سابقة لهؤلاء الدعاة أنفسهم في ظروف وحقب زمنية أخرى، ومؤخراً مثلت شهادة الداعية السلفي "محمد حسين يعقوب" أمام المحكمة، في القضية المعروفة إعلامياً بـ"داعش إمبابة"، مثالاً صارخاً على هذه التناقضات، إذ مثلت هذه المحاكمة، التي وصفها البعض بـ"محاكمة الفكر السلفي" وما شهدته من وقائع، صدمة كبيرة لأنصار هذا التيار، فالرجل الذي كان يمثل "النسخة الشعبية" من الخطاب السلفي، والذي كان له آلاف المريدين من أبناء هذا الاتجاه، أعلن أمام المحكمة تبرُّأه من الانتماء للتيار السلفي سواءً على المستوى التنظيمي، بالرغم من عضويته لسنوات فيما يُعرف بمجلس شورى العلماء، أو حتى على المستوى التنظيري، حيث قال إنه خريج "دبلوم معلمين" واإنه ليس من العلماء، ويركز فقط على دعوة "عوام الناس"، وإن الشباب الذين انتهجوا العنف واعتنقوا أفكاراً متطرفة "هو نفسه روج لها في مناسبات عديدة" هم مجموعة من "الجهلة أوصلتهم عقولهم لهذه المرحلة".

تطرح هذه المواقف، التي دائماً ما تصدر عن الدعاة المحسوبين على الاتجاه السلفي، تساؤلات تحاول تشريح هذه التناقضات، والوقوف على طبيعتها ومصدرها، من حيث كونها نتاج "مراجعة" وتحول فكري، أم هي مجرد "مناورة" من هؤلاء للتعايش مع متغيرات وسياق سياسي واجتماعي معين؟

بدايةً يجب التفرقة بين "المراجعة الفكرية" و"المناورة السياسية"، فالمراجعة الفكرية هي عملية تتضمن مسارين متوازيين: الأول هو النقد العميق والجذري لأفكار الماضي وممارساته، والثاني يتمثل في صياغة نسق فكري وأيديولوجي جديد منضبط ومنقطع الصلة بالقديم.

أما المناورة السياسية فتعني تبني مواقف مختلفة ومناقضة للنسق الفكري والاتجاه العام الحاكم لتوجهات فصيل بعينه، بغية التعايش مع واقع سياسي واجتماعي وربما إقليمي معين، أو تحقيق مكاسب ومصالح بعينها، وبالتالي فالتحول هنا غير مُؤسس على تغير حقيقي في المفاهيم والقناعات.

وفيما يتعلق بماهية وطبيعة هذه التناقضات التي تطغى على ممارسات الدعاة السلفيين في ظروف وحقب مختلفة، فبتسليط الضوء على بعض المواقف لهؤلاء يمكن الوقوف على أصل وطبيعة هذه التناقضات، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، موقف داعية كمحمد حسان، الذي كان قبل ثورة يناير 2011 يمتدح الرئيس الراحل "محمد حسني مبارك"، وليس أدل على ذلك من تصريحاته عن مواقف «مبارك» من قضايا الأمة وإفتائه بحرمة التظاهر والخروج على الحاكم، وبعد تنحي الرئيس "مبارك" قال إنه "فرح وهو يشاهد صورة «مبارك» يتم إزالتها؛ لأن الإله هو الرب الواحد، ومبارك كان يُؤله نفسه" ثم قال: «لطالما صرخنا مراراً وتكراراً ولكن هيهات، قلّ من يتعظ وقلّ من يعتبر»، بل إن "محمد حسين يعقوب" نفسه كان دائماً ما يدافع عن الرئيس الأسبق "مبارك" ويصفه بالحكيم، وبعد سقوطه هاجمه ووصفه بالظالم والطاغية الذي عطل تنفيذ الشريعة الإسلامية، وحارب أبناء التيار الإسلامى لخدمة أعداء الدين.

على مستوى أكبر يوجد الدعوة السلفية، التي كان أحد منظريها وهو الطبيب "ياسر برهامي" يقول قبل الخامس والعشرين من يناير، في أكثر من مناسبة منها محاضرة له عن "مناهج التغيير عند السلفيين" عام 2006، إن الآلية الديمقراطية وما يرتبط بها من ممارسات وما ينبثق عنها من مؤسسات سياسية تستند لمبدأ حُكم الشعب، هي "آلية ومؤسسات كفرية"، لكن بالرغم من هذه القناعات الفكرية الراسخة لدى السلفيين إزاء الفكرة الديمقراطية، تحولوا منذ 2011 إلى واحد من أهم الفاعلين في المشهد السياسي، وهو الأمر الذي أحاله الباحث الكبير الدكتور "محمد حافظ دياب"، في كتابه "نقد الخطاب السلفي"، إلى أن هذا التحول نحو ممارسة السياسة مجرد آلية يستهدف منها السلفيون الوصول إلى الحكم، وتطبيق رؤيتهم "الأصولية" في حكم البلاد، بعيداً عن وجود تغير أو مراجعات فكرية جادة مبنية على قواعد منهجية وأُطر فكرية واضحة، تستند إلى معطيات الفقه المقاصدي وفقه المآلات، وبالتالي فالحاصل هو أن التقلب والتغير في المواقف كموايءمة للواقع السياسي هي سمة أصيلة ومكون بنيوي لهذا التيار.

عكست المحاكمة، التي أدارها باقتدار المستشار "محمد السعيد الشربيني"، من جانب انتهازية دعاة الفكر السلفي، ومن جانب آخر حالة الهشاشة وغياب البناء المعرفي المنضبط عند هؤلاء، وهو الأمر الذي يترتب عليه كوارث تبدأ بالتطرف الفكري وتنتهي بالعنف والإرهاب المسلح.