رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جوهر يونيو

في آخر الأمر، يراد لوطننا الغالي أن تحكمه قوى همجية ظلامية، تزعم أنها تحكم بما أنزله الله، ومن ثمَّ فالمعادون لها هم معادون للحكم الإلهي نفسه، وهي الفكرة الخبيثة التي ألقتها التيارات الدينية المتشددة بين الناس منذ بداية ظهورها؛ لوضع المؤسسة الدينية الرسمية في موضع الحرج، وخدعة العوام واستقطابهم إليها، وتأليب المتحمسين السذج على حاكميهم الفعليين ومؤسساتهم الرسمية لتعُمَّ الفوضى؛ فعمومها رجاؤهم الأكبر ليصيبوا تمكينا يحلمون به ليل نهار ويسوقوا العباد كالأغنام ويتحكَّموا في النِّيل والأهرام.. لا يتحدث هؤلاء عن خطط تنموية معتبرة للصعود بالبلد، ولا يملكون مثل ذلك أصلا، ولا يفهمونه، لكنهم يدخلون العقول الفارغة من باب واحد، باب الحاكمية التي يجب أن تكون لله وحده في صورة إنفاذ شريعته في الأرض، هكذا يغزون مثل هذه العقول غزوا، مستغلِّين محبة المصريين الخالصة لله ورسوله، إلا أنهم يخالفون الشريعة الإسلامية جاهلين بها ومطوعين إياها للهوى، أعني يخالفون مقاصدها العليا وخلاصاتها الكبرى وقيمها الإيجابية العامة، وبالمناسبة هم لا يعرفون كيفية إنفاذها في الأرض، ولا المقصود بإنفاذها من الأساس!
قضية هؤلاء محسومة في ظني، مهما أثاروا الزوابع في الفناجين، لكن المعضلة المستمرة تكمن في القطيع الذي صدقهم أو تعاطف معهم فأيدهم، في الخفاء أو العلن، ومنحهم دعمه أيًّا كان.. 
كلنا يجب أن نؤمن بالحرية، لكنني أركز على الحرية الناضجة المسؤولة، ولا أرى الفوضى حرية، ولا أرى ممالأة القتلة حرية من أي نوع، إن العمليات الإرهابية القذرة ليست على الأرض وحدها (في سيناء والعريش وغيرهما)، إنما تشمل غسل الأدمغة طبعا؛ فقبل الغدر بجنودنا على الرمال تكون العصابات الإلكترونية المنشقة عن الصفوف والخارجة على النظام العام مهَّدت لمثله الطريق، وبعد الغدر بجنودنا على الرمال تكون هذه العصابات أول طاعن في الدماء الطاهرة التي سالت، وتسخر بشدة من وصفها بالذكية ووصف أبنائها بالشهداء، ويتبع خطاها المخدوعون المضطربون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قبل يونيو 2013 كانت الأوضاع كارثية بكل معنى الكلمة، كل ما هنالك أن حفنة من المجرمين أولي السوابق، من أنصار الاتجاه الديني العبثي الدموي المصالحي، وجدوا أنفسهم حكاما ومسؤولين، في لحظة غافلة لا تغتفر، وترتب على ذلك أنهم صاروا سادة وقادة بين يوم وليلة، وترتب على أوضاعهم الجديدة الزائفة زيف الأمور كلها، وتراجع التقدميون ليتقدم الرجعيون، وصار البلد المتحضر كأنه منحدر جبل!
جوهر يونيو كان إنقاذ المستقبل من الغربة التي بدت متقاطعة مع النسق الأصلي الاعتيادي الحميم للدولة، ولأن ثورة يونيو تصدَّت لهؤلاء الذين أذرعهم في كل مكان بالعالم، كان لا بد أن تقع قلاقل وفتن من حين حدوث الانفراجة إلى وقتنا الراهن.. والواجب على كل ذي عقل رشيد تفهم الأمر، وإفهامه للآخرين، على النحو الصحيح.