رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر واليونان

على طاولة مباحثات الرئيس عبدالفتاح السيسى وكيرياكوس ميتسوتاكيس، رئيس الوزراء اليونانى، الذى زار القاهرة، أمس الأول الإثنين، كان الملف الليبى حاضرًا، لكنه لم يكن الملف الوحيد، كما لم يتضمن ما تم التوافق عليه بشأنه أى جديد، بل مجرد تأكيد على مواقف البلدين الثابتة، التى سبق الإعلان عنها، مرارًا، فى سياقات ومناسبات مختلفة.

الدولتان تتقاسمان حدودًا مع ليبيا، أحدها برية والآخر بحرية، والاثنتان متضررتان من عدم استقرار الدولة الشقيقة، وتسعيان باستمرار إلى تحقيق السلام المستدام على أراضيها. وعليه، كان طبيعيًا وبديهيًا أن يتوافق الزعيمان، سابقًا وحاليًا وإلى الأبد، على ضرورة إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضى الليبية، وتفكيك الميليشيات المسلحة، والقضاء على الإرهاب، ودعم المسار السياسى، وصولًا إلى إجراء الانتخابات فى موعدها المقرر، نهاية العام الجارى. لم يكن جديدًا، أيضًا، أن يشدد الرئيس على تضامننا مع اليونان حيال أى ممارسات تنتهك سيادتها، ليس فقط بسبب روابط الصداقة والعلاقات التاريخية ولكن أيضًا التزامًا بمبادئ القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، التى توجب احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية.

إلى جانب الملف الليبى، والانتهاكات التركية للسيادة الليبية واليونانية، تناولت المباحثات سبل تعزيز التعاون الثنائى بين البلدين الصديقين، خاصة فى مجالات الربط الكهربائى والتبادل التجارى والسياحة، والعمل على تدعيم الروابط الثقافية المشتركة اتساقًا مع عراقة العلاقات بين الدولتين، كما شهد اللقاء تبادل الرؤى ووجهات النظر حيال القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، كتطورات القضية الفلسطينية، ومستجدات موضوع السد الإثيوبى، وتم التوافق على ضرورة قيام المجتمع الدولى بدور جاد فى هذين الملفين، حفاظًا على الاستقرار الإقليمى.

العلاقات المصرية اليونانية ممتدة وآخذة فى التنامى. ومنذ ٢٠١٤ لم تنقطع زيارات كبار المسئولين المتبادلة، ولم يتوقف التواصل المستمر، سواء على المستوى الثنائى، أو فى إطار آلية التعاون بين مصر واليونان وقبرص، لمواجهة التحديات المشتركة، والتهديدات التى تستهدف ثرواتها، وللتنسيق بشأن القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.

تتويجًا لـ١٣ جولة من المفاوضات، تم توقيع اتفاق تعيين الحدود البحرية المشتركة فى ٦ أغسطس الماضى. وبمبادرة أطلقتها مصر، فى أكتوبر ٢٠١٨، ودعمتها اليونان، تم تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، الذى صار خلال أقل من عشرين شهرًا، نهاية سبتمبر الماضى، منظمة إقليمية مقرها القاهرة. ولعلك تعرف أن التحولات العديدة، التى جرت وتجرى فى المنطقة، منذ سنة ٢٠١١، كان أبرز أهدافها السيطرة على مصادر الطاقة. 

لعلك تعرف أيضًا أن مصر، بمجرد أن استردت عافيتها، بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، بدأت فى الإمساك بمفاتيح مستقبل غاز شرق المتوسط. وما من شك فى أن روابط الصداقة التى تجمع بين القيادة السياسية فى البلدين، والعلاقات التاريخية بين الشعبين، أسهمت فى تعزيز آليات التعاون وتحقيق تلك الطفرة النوعية فى العلاقات، التى نشهدها خلال السنوات السبع الماضية فى جميع الجوانب وعلى مختلف الأصعدة، وعلى رأسها ملف الطاقة، وتحديدًا غاز المتوسط.

تمتد جذور العلاقات بين البلدين عبر آلاف السنين، وكانت الحضارتان المصرية واليونانية، وما زالتا، من ركائز الإرث الثقافى والحضارى والإنسانى فى المنطقة والعالم. ومن أثينا، مدينة الفلاسفة والحكماء، صانعة الديمقراطية، فكرًا وتطبيقًا، انطلقت فكرة «منتدى الحضارات القديمة»، التى شاركت مصر فى بلورتها، ثم فى تأسيس المنتدى وصياغة منهج دولى شامل يحقق أهدافه. وفى ٢٤ أبريل ٢٠١٧، استضافت العاصمة اليونانية مؤتمر التأسيس. وتم الاتفاق على عقد مؤتمر وزارى سنوى، تتولى إحدى الدول الأعضاء رئاسته بالتناوب. 

على هامش ذلك الاجتماع، التقى وزير خارجيتنا الرئيس اليونانى، الذى أشاد بدور مصر فى حل نزاعات المنطقة، وأعلن عن دعم بلاده لها فى حربها ضد الإرهاب، وأبدى تقديرها الكبير للرئيس السيسى وبما تشهده مصر فى عهده من نقلة نوعية فى شتى المجالات. وأشاد بالتعاون الثلاثى بين مصر واليونان وقبرص، باعتباره نموذجًا ناجحًا للتنسيق والمشاركة فى تنفيذ مشروعات تسهم فى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

مع مصر واليونان، شاركت ٨ دول فى تأسيس المنتدى: الصين، الهند، إيطاليا، بوليفيا، العراق، إيران، المكسيك، بيرو، وانضمت إليها أرمينيا سنة ٢٠١٨. ويمكن تلخيص فكرة المنتدى، فى أنه محاولة من الدول صاحبة أقدم الحضارات، لاستحضار القواسم المشتركة، والحفاظ على تراثها الثقافى والإنسانى ومد جسور التواصل والتفاهم بين شعوبها، وخلق قوة دفع إضافية للجهود المبذولة، إقليميًا ودوليًا للتصدى لخطر الإرهاب والتطرف، وتبادل تجارب الاستفادة من تطوير الاقتصاد السياحى وتوجيهه لخدمة جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

الخلاصة، هى أن الدول صاحبة الحضارات تتلاقى وتتعاون وتتوافق وتمد الجسور، بينما لا تجيد الدول اللقيطة غير النعيق، الذى قد يبتز الحمائم، لكنه لن يهز الصقور.