رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مباشر من غزة.. ملاك «برج الجلاء» يروون لـ«الدستور » ملحمة إعادة البناء بأيد مصرية

برج الجلاء
برج الجلاء

لا يتوقف عطاؤك أبدًا يا مصر، مهما مرت عليك المحن والشدائد، وها هو عطاؤك يمتد خارج حدودك، ويلقى بذور الخير والنماء فى أراضى الأشقاء من حولك، بل فى كل مكان، حتى أصبح العالم كله يتحدث عن جهودك، خاصة فى قطاع غزة، وكيف طببتِ جراح أهاليه ومنحتهم الأمل من جديد.

وتستمر الأعمال المصرية، لليوم الثاني على التوالي، لإزالة ركام «برج الجلاء»، أشهر وأكبر وأقدم الأبنية فى القطاع، الذى تعرض للقصف والتدمير بشكل كامل، حيث تم إنشاؤه عام ١٩٩٠، بارتفاع أكثر من ٥٠ مترًا، وكان يضم العديد من الشقق السكنية والمكاتب التجارية ووكالات الأنباء مثل «أسوشيتد برس» الأمريكية.

وفى السطور التالية، يتحدث عدد من ملاك وسكان برج الجلاء لـ«الدستور»، عن كواليس إعادة إعمار البناية على أيدى العمال المصريين، وكيف تعيد القاهرة لهم الأمل من جديد فى عيش حياة مستقرة، بعد رعايتها وقف إطلاق النيران، وبدئها إعادة إعمار القطاع، وإحداث عملية تنمية اقتصادية فى غزة، لتنهض بالواقع المعيشى للسكان، وغيرها من التفاصيل. 

 

 

حامد:وجود مصر معنا يطمئننا بسرعة الإعمار.. و«وقفة الإخوة» ليست جديدة عليها

كشف حامد جواد مهدى، نجل مالك برج «الجلاء»، عن أن البناية كانت تضم نحو ٣٠ مكتبًا و٣٠ شقة سكنية، وتتكون من ١١ طابقًا، بجانب الدور الأرضى والجراج، مقسمة إلى ٥ طوابق مكاتب تجارية، ومثلها شقق سكنية، والطابق الأخير كان به مكتب وكالة «أسوشيتد برس» الأمريكية.

وقال «حامد»، متزوج ولديه ٣ بنات، إن شقته، التى جهزها فى البرج قبل أشهر من العدوان، تعرضت للقصف، مضيفًا: «أسكن فى الشقة منذ ٥ شهور فقط، وانتهيت من تجهيزها على أكمل وجه، وكنت أحتفل بأننى تمكنت من تجهيزها مثلما كنت أحلم دائمًا، بأن تصبح لدىّ شقة واسعة وأثاث راقٍ أعيش فيه مع أسرتى، ويكون مناسبًا لأولادى» .

ونقل مشاعر السعادة التى عاشها أهالى منطقة الرملة فى غزة، خاصة سكان البرج، عند وصول العمال والمعدات المصرية لبدء عملية إزالة الركام، تمهيدًا لمرحلة إعادة إعماره، قائلًا: «الناس استقبلتهم بكل حب، والعمال والمهندسون المصريون إخوة لنا، وهم متعاونون جدًا معنا».

وأوضح: «الأهالى طلبوا من العمال المصريين أن يسمحوا لهم بالبحث عن أغراضهم بين الركام والأنقاض، وحقيقة المصريون تقبلوا ذلك بصدر رحب، حتى إنهم فى أثناء عملية الإزالة يقومون برفع الأنقاض وفردها على الأرض أولًا قبل وضعها بالشاحنة التى تنقلها بعيدًا، حتى نتمكن من البحث عن أغراضنا».

وقال: «هذه المرة الأولى بالنسبة لى التى أشاهد فيها الإخوة المصريين يساعدوننا فى إزالة الركام على الأرض، وهذا يطمئننا أكثر بأن إعادة الإعمار هذه المرة ستكون أسرع من سابقتها».

وأضاف: «بصراحة كل ما أنتظره الآن هو أن أجد شقتى من تحت الركام، حتى أستطيع إخراج أى شىء يبقى ذكرى لى منها، فجميع ألبومات الصور الخاصة بنا لم أستطع أخذها ولم يسمح الوقت حينها لى بذلك، وكذلك أشرطة الفيديو.. آمل أن أجدها لتبقى لنا ذكرى».

وأعرب عن أمنيته بأن تستمر مصر فى جهودها والضغوط التى تمارسها من أجل تثبيت وقف إطلاق النار، والعمل على استمرار الهدوء فى القطاع، متابعًا: «نتمنى من مصر أن تستمر فى ممارسة جهودها للبدء بإعادة الإعمار، خاصة أننى علمت أن إعادة إعمار البرج ستكون بإشراف مصرى».

وأكد أن مصر تقف مع غزة بشكل دائم، وأن العمال المصريين الموجودين هناك يعملون ويبذلون جهدًا كبيرًا، متابعًا: «الله يعطيهم العافية، منهمكون بالعمل منذ الصباح، وإزالة الركام تتم طابقًا تلو الآخر وليس بشكل عشوائى، ولذلك تأخذ وقتًا يمكن أن يمتد لأسبوعين وأكثر، نظرًا لأنه يتم فصل كل المواد عن بعضها البعض، وتقوم الشركات الخاصة فى غزة بإعادة تدويرها، على سبيل المثال هناك من يأخذ الألومنيوم، وآخر يأخذ الردم والحجارة، وآخر الأسلاك، وهكذا».

وأشار إلى أنه لا يزال ينتظر دوره للذهاب إلى عمليات الإزالة والبحث عن محتويات شقته، مضيفًا: «أتمنى من قلبى أن تبدأ عملية الإعمار بأسرع وقت ممكن، لأن هذا ما سيمنحنا الراحة والطمأنينة، وكذلك أتمنى أن تسهم الجهود المصرية بتثبيت وقف إطلاق النار، وأن تمارس ضغوطها على الاحتلال لإعادة فتح المعابر، لأن الوضع صعب بشكل عام فى غزة».

ووجه الشكر والتقدير لمصر وشعبها على دعمهم الدائم قطاع غزة والقضية الفلسطينية ككل، قائلًا: «أشكرهم على وقفتهم معنا، وهذا ليس بجديد عليهم فنحن إخوة».

واسترجع اللحظات القاسية التى عاشوها وقت تلقيهم أمر الإخلاء، وما تلاها من أيام صعبة، قبل نجاح الجهود المصرية فى وقف إطلاق النار، وكيف حاولوا التجمع مرة أخرى، موضحًا: «استقبلت نبأ تعليمات الإخلاء بعدما انتهيت من صلاة الظهر، فجاءت زوجة أخى مسرعة إلى الشقة، وتقول (إجا إنذار لإخلاء البرج، وضابط الجيش الإسرائيلى يتحدث الآن مع والدك)، فذهبت بسرعة إلى شقته لأتأكد من الأمر، ووجدته صحيحًا، وكان يتحدث معه عن مكان إسقاط البرج فى الأرض الخالية المجاورة له».

وواصل: «نزلت إلى شقتى مسرعًا لإخلاء ما أستطيع، وكانت زوجتى وبناتى الثلاث قد أخلين الشقة واستقبلهم بعض الجيران، وعند نزولى حاولت أن آخذ ما أستطيع حمله، وبالأحرى ما خف وزنه وغلا ثمنه، فكنت أعتقد بكل صدق فى البداية أنه لو تم قصف البرج ستُستهدف شقة بعينها، أو مكتبًا ما مثلًا، حتى إننى عندما أخليت أغلقت الباب بالمفتاح على أمل أن أعود إليها مرة أخرى، فنحن فى كل حرب أو تصعيد نجهز شنطة للأوراق المهمة والذهب وغيرها، ولكن هذه الحرب جهزنا شنطة أخرى لبعض الملابس».

وتابع: «طبعًا بعد الإخلاء ذهبت إلى الشارع، وانتظرت أمام البرج قليلًا حتى أطمئن على خروج والدى، الذى تأخر بسبب ذهابه لكل شقة والتأكد من إخلائها، خاصة أننا وإخوتى نعيش فى ٦ شقق داخله، وبعدها طلب الجيش الإسرائيلى الابتعاد عن المكان، وقصف البرج فى لحظات»، مشيرًا إلى أنه بعدها ذهبوا جميعًا «والداه، و٤ إخوة آخرين متزوجين ولديهم أسر»، بواقع ٣٠ شخصًا، للعيش فى منزل شقيقته إلى حين انتهاء الحرب.

وعن مرحلة بدء التهدئة وانتهاء معاناة القصف، قال إنهم تعرضوا لمعاناة أخرى فى البحث عن شقق، خاصة أنهم يريدون بناية تضمهم جميعًا كما كان فى السابق، على حد وصفه، مضيفًا: «بعد مرور أسبوع ونصف الأسبوع وجدنا عمارة، وسكنت بها أنا وأحد أشقائى فقط، إلى حين تشطيب باقى الشقق لتنتقل إليها باقى العائلة، وهو ما يحتاج إلى نحو شهرين، فشقتى الحالية لا شىء مجهزًا فيها سوى المطبخ، أما باقى الغرف فما زالت تحت التجهيز، وننام بفرش أغراضنا على الأرض».

واختتم: «رغم مرور أكثر من شهر على تدمير البرج، فإن زوجتى ما زالت تبكى يوميًا كلما تشاهد صورًا أو فيديو، نحن نسكن فى البرج من ٢٠٠٨، أى أن جميع الحروب التى عاصرتها غزة بدءًا من ذلك العام، مرورًا بحربـى ٢٠١٢ و٢٠١٤، والحرب الأخيرة، كنا داخله، ولكننا انتقلنا لشقة أكبر وجهزناها حديثًا قبل القصف».

حاتم:  سعادتي لم يكن لها مثيل يوم وصول المعدات المصرية لمقر البرج

وروى حاتم مهدي، نجل مالك برج الجلاء، وكان أحد قاطنيه أيضًا، فرحته العارمة، خاصةً أنه ممن أعادوا امتلاك العديد من أغراضهم الهامة التي خرجت من أسفل الأنقاض، خلال العمليات المصرية لرفع الركام ومحو آثار الدمار في غزة، كما أنه غُمر بسعادة مضاعفة لأنه تلقى دراسته في جامعة الإسكندرية، والآن يخلق صداقات مع العمال المصريين ليحيون له الذكريات، على حد وصفه.
وقال حاتم، متزوج ولديه ولد وبنتين، خلال حديثه مع "الدستور"، :"المهندسون وسائقي المعدات المصريين متعاونين للغاية، فهم يزيلون الركام برفق للحفاظ على الأشياء الموجودة تحته بقدر الإمكان، فالعمال المصريين هم من يقودون المعدات، ويعاونهم عمال غزة، الذين تخصصوا في استخراج الالمونيوم والنحاس وقوالب الركام لكي يتم إعادة تدويره".
وشرح :"رفع الانقاض يتم من أطراف البرج، وبين كل طابق والثاني يكون هناك مساحة صغيرة، حوالي 50 سم، فيتمكن العمال من جلب الأغراض منها، وذلك يسري على الغرف الخارجية فقط، أما الداخلية فيكون الأمر أكثر صعوبة، لأن هدم السقف يعني تدمير جزء كبير أسفله، والعمال المصريين (متعافين جدا ومتعاونين وأوقوياء)".
وأكد حاتم أن سعادته لم يكن لها مثيل يوم وصول المعدات المصرية لمقر البرج، وبدء رفع الأنقاض، خاصةً أنه تمكن من الوصول إلى أنقاض شقته، وبسبب الأعمال المصرية الدقيقة، تمكن أيضًا من الحصول على أغراض هامة لم تندثر أسفل الركام، قائلا: "وأنا أبحث عن أغراضي بين الركام وجدت المشغولات الذهبية الخاصة بزوجتي، وعطور، ونصف ملابسنا، فكلها أشياء غالية علينا، وهناك منها ما يخص والد زوجتي الراحل، ومن ثم فهي تعتز بتلك الأشياء كثيرا".
وتابع: "(من فرحتي اتصلت بمراتي لتيجي ولبستها الشبكة تاني قدام البرج).. وكان معي ابني يدعى يزن، وعندما وجدنا غرفته (طار من الفرح) لأنه وجد بها أغراضه الشخصية وشهاداته، أما غرفة البنتين فلم نجدهما إلى الآن، وفي الغالب تدمرت بالكامل لأن السقف الذي كان يعلوها كان يجب أن يزال ويهدم بشكل كامل".
وتحدث حاتم عن الأمل الذي منحته له الأعمال المصرية، بجانب الفرحة التي سيطرت عليه، :"كنت فاقد الأمل وغير متوقع لأن أجد شيء، وذلك لأني حضرت عمليات إزالة سابقا وكانت المشاهد صعبة والمقاولين يعملون بسرعة دون اهتمام بإمكانية العثور على أغراض للأهالي تحت الأنقاض، لكن حاليا الأوضاع تبدلت، ولأن العمل يتم بالمعدات المصرية فكان يتم بهدوء ونتمكن من العثور على أغراضنا".
وأشار إلى أنه يريد أنه برغم كل ذلك يشعر بأنه لا يستطيع التعبير عن مدى سعادته خاصةً بتعاون العمال المصريين، قائلا: "راح أحليهم بكنافة عربية.. اليوم دا أحلى يوم يمر علينا من يوم المصيبة (قاصدا يوم قصف البرج)".
واستكمل حديثه: "كل جيراني أصبح عندهم أمل، وينتظرون وصول الأعمال المصرية إلى الطوابق التي كان فيها شققهم  حتى يبحثون عن أغراضهم، ومن ثم يلتقطونها".
وعن الذكريات القاسية للحظات قصف برج الجلاء، يقول حاتم: "وقت القصف كنت في البيت، ولم يكن هناك وقت سوى 20 دقيقة منذ إبلاغي لإخلاء المنزل مع أسرتي، وحاولنا أن نأخذ معنا سريعا أوراقنا الهامة ونقودنا وبعض الملابس، ولم نأخذ من كل ذلك سوى شنطتين فقط.. كل ما أقدر أقوله أنه الموت كان أرحم مما حدث خلال القصف، ولكن عدت".
وأضاف: "بعد قصف البرج توجهنا للعيش في منزل والدة زوجتي، وبنتي الصغيرة عانت من صدمة عصبية بسبب الإخلاء وأوصوات القصف خلال التصعيد، فكانت لا تجلس أو تنام أو حتى تأكل إلى وهي تضع يديها على أذنها خوفا من أصوات الصواريخ".
ولفت حاتم إلى أنه لا يوجد تعويض حتى الآن من الجهات المعنية لمن تتضرروا في برج الجلاء، قائلا: "الأثاث والاجهزة الكهربائية تحتاج لحوالي 15 الف دولار لكل شقة، ولا يوجد تعويض من أي جهة حتى الآن، وبياناتنا سجلناها في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ولكن لم يتم تحديد أي شيء حتى الآن".
وأوضح أن أساسات البرج سليمة، ومن ثم فهم سيعملون على إعادة التصميم القديم نفسه، نظرًا لأن هناك 70 مالك ما بين الشقق والمكاتب التجارية، ومن ثم لا يمكن تغيير التصميم بشكل كامل، مشيرًا إلى أنهم لن يتعاقدوا مع وكالات أنباء مرة أخرى للوجود داخل البرج، لأن القصف تم لمنعهم من نقل الأحداث.