رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اكفروا بشيوخكم وتمسكوا بدينكم

تعمدت بخبث مصطنع لا أجيده أن أتصل بأحد أقربائي الملتزمين دينيًا- ولا أقول المتزمتين- عقب ما نشر عن شهادة أحد أقطاب السلفية أمام محكمة تنظر في القضية المعروفة إعلاميًا بقضية "داعش إمبابة"، لم يمهلني قريبي فرصة للتذاكي عليه، فقد بادرني باعترافات لم أعهدها منه في حواراتنا الفكرية السابقة، وفاجأني، إذ كان هو هذه المرة المبادر بوصلة بوح مدهشة، في حين لم أملك إلا الإنصات، واختلطت مشاعري بين سعادة مفرطة بما يقوله الرجل عن قناعة جديدة بدأ يغير بها هلاوسه الفكرية السابقة، وحزن شديد لخيبة أمل وغصة تعكسها نبرة صوته الذي يغالب البكاء.

قال لي الرجل الذي يطرق باب عقده الخامس: «تحدث كثيرون وكرروا مرارًا أنه (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة)، وكنا بحكم نشأتنا الدينية نسمع غير هذا، وربما كنا مع القائلين بغيره، وتمر الأيام ونصطدم بأحداث سياسية فاصلة في تاريخ مصر والمنطقة بأكملها، ثم تأتي اعترافات الشيخ اليوم لتكشف لنا خللًا في قناعاتنا.. فاليوم أنا نادم على إعراضي عن نصيحتك عندما قلت لي يومًا: (دع ما لقيصر لقيصر.. وما لله لله)، هذه قناعتي اليوم لكنها جاءت بعد سنوات صعبة عشناها، وأزمات مرت بها بلادنا، سنوات عجاف وأرواح بالآلاف صعدت لخالقها بسبب فكر معوج وتفسيرات خاطئة لنصوص دينية».

أدهشتني لغة الرجل وجرأته على الاعتراف بخطيئته الفكرية، فبادرته بالقول من باب التخفيف عنه: «"لكن رب ضارة نافعة"، كما يقول مثلنا العربي، فلولا تلك الفاجعة التي حلت ببلادنا قبل نحو عقد من الزمان ولولا هذه الأرواح الطاهرة التي صعدت، ما كان لنا أن ندرك الحقيقة كما نراها الآن، ولربما ظل جيل كامل بل ربما أجيال قادمة تتعرض لما تعرضت له وكثير من أبناء جيلك من تضليل واستغلال باسم الدين».

أجابني بصوت يكاد يغالب البكاء: "لقد افتتن جيل كامل بشيوخ قدموا لنا أنفسهم بقال الله وقال الرسول فصدقناهم، وفي ظننا أنهم وكلاء الله على الأرض، وكانوا قدوة وصارت مجالس دروسهم مقصدًا للآلاف من المريدين وطالبي العلم، حتى حين تحدث البعض عن ثرائهم الفاحش وغير المبرر، كنا ننكر على الذين يتقولون على الشيوخ تطاولهم على مقامهم السامي، وحين سربت أنباء شخصية وعائلية خاصة ببعضهم فيما يخص كون هذا مزواجًا أو أن ذاك ضُبط في سيارة وهو يمارس الرذيلة مع امرأة لا تحل له، كانت ردودنا لا تزيد عن: "لحوم العلماء مسمومة من شمها مرض ومن أكلها مات"، كما وردنا عن الإمام أحمد بن حنبل».

هنا كدتُ أضحك إذ تذكرت الفنان عادل إمام في فيلم «مرجان أحمد مرجان»، وهو يردد عبارة شهيرة للكاتب يوسف معاطي تقول: "لقد وقعنا في الفخ"، لكنني تداركت نفسي قبل أن يعلو صوت ضحكاتي، وعدت شخصًا عقلانيًا خاصة عندما راودتني كلمة كتبها كاتب صديق على صفحته في ذات اليوم تقول: "ليست المشكلة في شهادة يعقوب أمام المحكمة إنما فيمن صدقوه"، فقد أثبتت الأيام بالفعل منطقية هذه العبارة.

وإذا بي أنتبه لحديث قريبي الذي انفجر بوصلة من البوح لم أكن أتوقعها بهذه الدرجة من المصارحة والصدق مع النفس، إذ انتبهت لكلامه وهو يقول: «لقد كفرنا اليوم بشيوخنا.. نكره ما فعلوه بنا على مدار نحو أربعين عامًا، فيما سموه "الصحوة"».

أكاد أتخيل اليوم شبابًا ضاقت بهم السجون وآخرين ضُللوا حتى آمنوا بفتاوى القتل وإباحة دماء الأبرياء بفتوى من مدعٍ ظلم نفسه وظلم من آمنوا به وصدقوه واتبعوا الأوامر التي أشار بها فاستحقوا عقاب الله في الآخرة، واستأهلوا نبذ المجتمع السوي لذويهم ولعنات أهالي الضحايا الأبرياء لهم في الدنيا، وأدرك اليوم كم الألم الذي يشعر به ولي أمر توفي ابنه الشاب إذ صدقهم فضللوه وزجوا به في معاركهم الوهمية ضد أبناء الوطن وشركاء الدين فقضى في حربهم ضد إخوته في الجيش أو الشرطة.

هنا، أخذني الخوف على قريبي من أحد أمرين: أن يصاب بلوثة عقلية فيقدم على الانتحار فتضيع عليه دنياه- لا قدر الله- أو أن يمضي إلى دعوة إلحاد فيستجيب لها فيخسر بهذا دينه، ووجدتني أقول له: "لا عليك يا أخي من كل ما مضى، فالحمد لله أن أدركت الحقيقة دون أن تتلوث يداك بدم مصري مثلك.. أكفر بشيوخك المضللين هؤلاء وارجع لأزهرك الوسطي المستنير خذ من رموزه أمور دينك واستفتهم فهم أهل الفتوى، لكن الأهم ألا تكفر بدينك اليوم كما سعوا لتكفير مجتمعك بالأمس".