رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى تكريس كنيسة القديس مينا الأثرية بمريوط

فى 15 بؤونة «الموافق 22 يونيو» تحتفل الكنيسة القبطية بتذكار تكريس كنيسة القديس مينا الأثرية بمريوط، تلك الكنيسة التى تجذب نظر المؤرخين نظرًا لتاريخها المجيد. تقع هذه المنطقة قرب الإسكندرية على نحو 50 كيلومترًا منها. وتمتد أطراف هذه المنطقة- التى ترقى إلى مستوى المدينة- فى حدود صحراء مريوط حتى تشغل من مساحة لا تقل عن أربعين ألفًا من الأمتار المربعة بما عليها من بقايا الكنائس والأديرة والحمامات والمنازل والأسواق وغيرها. وتتوسط هذه جميعًا، الكنيسة الرئيسية الرائعة التى طالما انتزعت إعجاب المؤرخين القدماء فأطلقوا عليها اسم «أجمل وأعظم كنيسة مصرية»، «تحفة من روائع الفن المسيحى»، «مسرة لجميع شعوب مصر»، «الأكروبول المسيحى القديم»، وأيضًا «المدينة الرخامية».
أما الشهيد المصرى الذى تحمل المنطقة اسمه فهو القديس مينا الملقب بـ«العجايبى»، فهو من عائلة مصرية نبيلة، وأصل والده «أودوكسيس» من النبلاء وأمه «أوفومية» من المدينة المصرية الشهيرة المسماة باليونانية «نيقيوس» وتعنى بالمصرية «المنتصرون»، وتسمى أيضًا «إبشاتى»، «التى هى الآن زاوية رزين- بمحافظة المنوفية». وقد وُلد الشهيد المصرى فى عام 285م، وانخرط فى الجندية- كأحد النبلاء- وهو يبلغ من العمر 15 عامًا، وشغل وظيفة نائب القائد العام للجيش بولاية «فريجيا» بآسيا الصغرى. 
بعد أن صدر منشور دقلديانوس الذى يأمر كل إنسان بعبادة الأوثان، انسحب القديس مينا إلى الصحراء بغرض النسك والعبادة، وبعد أن قضى نحو خمس سنوات فى الرهبنة، غادر الصحراء إلى المدينة وجاهر بإيمانه المسيحى واستُشهد بقطع رأسه بحد السيف فى 24 نوفمبر عام 309م وهو يبلغ من العمر 24 عامًا، وبعد ذلك اصطحب بعض الجنود جسده المبارك وذهبوا به إلى منطقة مريوط وهناك تم دفنه. كان نواة منطقة القديس مينا قبر صغير ضم رفات الشهيد المصرى مينا، ففى بداية الأمر تم بناء مقصورة صغيرة فوق قبر القديس فى أوائل القرن الرابع الميلادى ثم أُقيمت الكنيسة الأولى فوق هذه المقصورة فى منتصف القرن الرابع الميلادى التى بناها البابا أثناسيوس الرسولى «328- 373م» البطريرك الـ20 والملقب بلقب «حامى الإيمان». ولما ضاقت هذه الكنيسة بالأعداد الغفيرة المتزايدة من المصلين، شُيدت على امتدادها من الجهة الشرقية كنيسة فخمة رحبة فى أوائل القرن الخامس الميلادى بطلب من الإمبراطور أركاديوس «395- 418م» الذى لم يدخر جهدًا فى زخرفتها وتزيينها، وذلك فى عهد البابا ثاؤفيلس البطريرك الـ23، وقد أطلق عليها المؤرخون اسم «كنيسة أركاديوس»، وقد كان لهذه الكنيسة بهاء وروعة انتزع إعجاب المؤرخين القدماء. اشتهرت المنطقة بكميات الأوانى الفخارية الهائلة المحلاة بصورة الشهيد المصرى واسمه التى عثر عليها فى شتى أرجاء العالم. هذا وكان يوجد بالمدينة نفسها عدة قنوات لنقل المياه من النبع المقدس إلى مجموعة كبيرة من الأحواض والصهاريج والحمامات والقاعات المخصصة لاستقبال المرضى. وما لبث أن تحوّلت الأرض المجاورة إلى كروم وبساتين يانعة ومثمرة. وهكذا قامت فى جوف الصحراء مدينة كاملة عامرة. 
وظلت منطقة أبومينا أشهر موضع للتقديس فى مصر كلها زمانًا طويلًا إبان العصور الوسطى، حتى إن زوار مدينة أورشليم القدس، وبعد التقديس، كانوا يحضرون إلى المنطقة مستقلين قوارب ببحيرة مريوط إلى مدينة القديس مينا بمريوط.
بدأ بعد ذلك نجم المدينة فى الاختفاء وأخذت عوامل التخريب والتدمير تتألب عليها، حتى إن أحد الخلفاء أرسل مبعوثًا إلى مصر لاستحضار كميات من الأعمدة والألواح الرخامية لاستعمالها فى مبانى بغداد. ولما وصل هذا المبعوث إلى مصر أرشده البعض إلى كنيسة القديس مينا بمريوط، وبالفعل أخرج من الكنيسة الرخام الملون والبلاط النادر. يذكر لنا المؤرخ أبوالمكارم أن كنيسة القديس مينا كانت لا تزال قائمة حتى القرن الثالث عشر الميلادى. بعد ذلك غمرتها رمال الصحراء، حتى دخلت المدينة العظيمة فى طى الصمت والكتمان والنسيان حتى أمكن اكتشافها على يد أفراد البعثة الألمانية الأثرية التى حضرت من فرانكفورت عام 1905م بقيادة الأسقف الألمانى «كارل- ماريا كاوفمان»، وله ندين بالفضل الكثير لاكتشافه مدينة العجائبى.
ثم فى عام 1959 فور جلوس البطريرك الملهم قداسة البابا كيرلس السادس على الكرسى المرقسى- باختيار إلهى حقيقى- حتى أبدى اهتمامًا واضحًا لإحياء تلك المنطقة. وكان قداسته طوال فترة رهبنته مشغولًا بإحياء تلك المنطقة وإعادتها إلى مجدها السابق، وقد عاونه فى ذلك ثلاثة من أعضاء جمعية مار مينا بالإسكندرية وهم: مفتش الآثار بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية الأستاذ بانوب حبشى «1913- 1956»، والطبيب السكندرى والمؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى «1908- 1990»، وخبير رسم الآثار المصرية بالمتحف اليونانى الرومانى الأستاذ بديع عبدالملك «1908- 1979». فبادر قداسة البابا بزيارة المنطقة الأثرية بصفة دورية وإقامة الصلوات بها. وكانت أول زيارة له فى يوم الجمعة 26 يونيو 1959 «أى بعد ستة أسابيع من إقامته بطريركًا طبقًا للتقاليد العريقة للكنيسة القبطية فى 10 مايو 1959» وأقام قداسًا فى المنطقة الأثرية. ثم قام ببناء دير حديث يبعد مسافة ثلاثة كيلومترات عن المنطقة الأثرية، فقام بوضع حجر أساس الدير فى يوم الجمعة 27 نوفمبر 1959، ثم وضع حجر أساس كنيسة كبرى- كالتى كانت عليها الكنيسة الأثرية- فى يوم الجمعة 24 نوفمبر 1961.
كان دير مار مينا يكبر أمامنا فى مراحل نمونا، حجرة حجرة وكنيسة كنيسة، وكان يبدو لنا كأحد الأماكن المقدسة التى ورثناها عن البابا كيرلس السادس. كان جمال الكنيسة القبطية يزداد جمالًا وبريقًا أمام أعيننا وفى فكرنا، حتى إننا رأينا أساقفة وكهنة ذلك العصر متمثلين بأبيهم الروحى البابا كيرلس السادس فى البساطة وحب الخدمة من القلب والبُعد عن المظاهر الخادعة والانشغال بالصلاة والسعى بإخلاص نحو خدمة كل نفس دون تمييز، كان البابا كيرلس حكيمًا فى كل كلامه وفى جميع تصرفاته ما أجبر الجميع على احترام أُبوته والاستماع إلى نصائحه السديدة. 
إن قصة دير القديس مينا العجايبى هى قصة حب بين البطريرك الوقور البابا كيرلس السادس وأبنائه المحبين الذين ارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بكنيستهم ووطنهم. ويشرف كاتب هذا المقال أنه كان أحد الأفراد الذين حضروا احتفال وضع حجر أساس هذا الدير العظيم فى عام 1959 وكنت وقتها طفلًا أبلغ من العمر تسع سنوات، حيث ذهبت بصحبة والدى وأعضاء جمعية مار مينا بالإسكندرية، كما أن البابا كيرلس السادس قام بتكليف والدى الأستاذ بديع عبدالملك بكتابة اللوحة التذكارية التى وُضعت فى حجر الأساس، وما زالت اللوحة التذكارية موجودة بالدير تشهد على روعة الكتابة والإتقان فى الإخراج القائم على الحب. كان هذا الزمن هو زمن البساطة والصراحة والحب والإخلاص الشديد للكنيسة المصرية العريقة، كانت أيامًا رائعة عشناها بكل أبعادها وما زالت محفورة فى ذاكرتنا.
البابا كيرلس السادس سعى بإخلاص للحفاظ على كنيسة القديس مينا العجايبى بمريوط بعد أن علم أن الكنيسة اليونانية بالإسكندرية- التى تحب القديس مينا بصدق- تريد أن تضم المنطقة الأثرية كلها للكنيسة اليونانية. تحية لروح البطريرك العظيم البابا كيرلس السادس- الذى غرس فينا الحب الحقيقى للكنيسة والوطن- ولأرواح أعضاء جمعية مار مينا للدراسات القبطية بالإسكندرية من المؤسسين الذين تعبوا بصدق فى تأسيس الجمعية بكل الحب والإخلاص.