رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الناقد والمفكر المغربي عبد الرحيم جيران يحاور الباحثة العمانية منى حبراس السليمية "1-2"

«حوار بين جيلين»: منى حبراس السليمية: بعض الكتاب الشباب أعلنوا القطيعة مع جيل الكبار

منى حبراس
منى حبراس

منى حبراس السليمية كاتبة وناقدة عمانية شابة، حاصلة على دكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس في الرباط في عام 2019، وماجستير في الآداب من جامعة السلطان قابوس في عام 2011، وبكالوريوس لغة عربية وآدابها من جامعة السلطان قابوس أيضا في عام 2006، صدر لها كتاب (الطبيعة في الرواية العمانية) في 2013. وتعدّ مجموعة إصدارات للنشر.

 

"الدستور" تقتح الحوار بين جيلين؛ جيل الناقد الروائي والشاعر المغربي عبد الرحيم جيران بكل ما حققه من انتصارات وانتشار، وجيل الشباب وتمثله الكاتبة والباحثة العمانية منى حبراس  السليمية العساسي وتجيب عن أسئلة الناقد عبد الرحيم جيران.

 

كيد أن تجربة الحوار بين جيلين هذه لها من الفائدة أثر حميد في تطوير الأدب، وضمان مواصلة تراكم الإنتاج على نحو متفاعل، لكن السؤال الذي يخطر لي هو ما إذا كانت هذه التجربة مفقودة في الواقع وتُشكِّل مظهرًا من مظاهر أزمة الأدب العربيّ تخييلًا ونقدًا؛ إذ يسود بدلًا من هذا الحوار- في الوسط الثقافي- سلوكان متنافران: التعالي من قِبَل ذوات الكتاب الكبار بفعل أزمة الذات النرجسيَّة المتضخِّمة، وتجاوز وهميّ غير مبني على حقائق الأرض من قِبَل الكتاب الشباب. فهل تشاطرينني هذا الرأي أم لك وجهة نظر أخرى؟ (أقصد هل سبق أن تنازل كاتب كبير وأجرى حوارا مع كاتب في الطريق حول إنجازه؟) 

 

أشاطرك الرأي بكل تأكيد في أهمية التجربة، وأود أن أسجل شكري لمبادرة صحيفة “الدستور” المصرية على هذه الفكرة، وللصديق الصحفي خالد حماد؛ لأنه شرع في تنفيذها أولاً، ولأنه جمعني بعَلَم بارز من أعلام النقد والأدب في وطننا العربي، والذي يشرفني دائماً أن ألتقيه وأشاركه الأفكار والهواجس، وأطرح أمامه أسئلتي الصغيرة دون تردد، وبدوره يتقبلها بمحبة ورحابة صدر.

 

في الواقع، لا أعرف إن كان الكتّاب الكبار في الغالب يتصرفون بتعالٍ ونرجسية، أو أن الكتّاب الشباب يعيشون وهماً مفارقاً للواقع؛ لأن العلاقة حتى وقت قريب كانت قائمة عبر مسافة آمنة (عن بعد)، ولم يكن التواصل بين الأجيال بالوضوح والفاعلية اللذين أفرزتهما أزمنة السوشيال الميديا التي لاقت بين الكاتب وقرائه، وبين المفكر ومريديه. ولكن فكرة الحوار المباشر بين جيلين (طرفاً لطرف) ليست شائعة بالطريقة التي تفرض على الطرف منهما أن يجلس ليتأمل في أسئلة الطرف المقابل، ويفكر في إجاباتها، لا ليُعجب به أو ليُثبت شيئاً، ولكن من أجل الصدق في التعلم. في أسئلتي التي طرحتها عليك في الحلقات السابقة من هذه السلسلة، وفي إجاباتي اليوم على أسئلتك أزعم أنها توخّت الصدق الذي يجعل التقارب روحياً ومعرفياً ممكنا، وهذه قيمة نحتاجها، ونفتقدها في واقعنا اليوم، فنحن الشباب نريد أن نتعرف عن قرب إلى الجيل السابق، وأن يستمع ذلك الجيل إلينا كذلك. لدينا ما نقوله ونعرف أنه مشوب بالأخطاء والتشويش، ولكننا نحتاج أكثر ألا نشعر بالحرج ونحن نخطئ. وهذا يحتم علينا قبل كل شيء مفارقة الوهم، كما يلزم الجيل السابق الكثير من التواضع من أجل حالة ثقافية صحية. وأعدّ نفسي محظوظة جدا لأني التقيتُ بك، وعرفت أن التلاقي ممكن جداً: الآن ومن قبل ومن بعد.

 

عطفًا على السؤال الأوَّل، هل يُواكب الكتَّاب الشباب ما يُنتجه الكبار، وما طبيعة هذه المواكبة؟ أمن أجل المعرفة فحسب، أم من أجل البحث عن نماذج بغاية اتِّباع ملامحها، أم من أجل الكتابة عن أعمالهم، أم لا هذا وذاك، ولا يتعدَّى الأمر كونه فضولًا لا يلبث أن يُسفر عن قطيعة، بل عن قتل رمزيّ؟

 

لا أظنني أستطيع الحديث بعمومية عن جيل الكتّاب الشباب، ولكن في تصوري الشخصي أنهم يفعلون ذلك: يُواكبون ما ينتجه الكبار للبحث عن بصمتهم الخاصة، ومن أجل المعرفة أيضاً وربما الفضول. على الرغم من أن عدداً كبيراً من الشباب قد أعلن قطيعته مع جيل الكبار، بل وتسفيه أعمال مهمة لا يمكن تجاوزها، وأتصور أن هؤلاء لن يلبثوا أن يكتشفوا فداحة مذهبهم، ولكني أرجو ألا يكون ذلك قبل فوات الأوان. في الواقع تجد أحياناً نزوعاً نحو العيش في جزيرة معزولة، وعدم الرغبة في الاعتراف بفضل السابقين على اللاحقين، وهذا شيء تعجز أحياناً عن فهمه أو فهم أسبابه، ولكني أتصور أنه وليد رغبة ينقصها النضج في التعبير عن جيل لديه ما يقوله مما لا يشبه السابقين، ويرفض الوصاية من أي أحد. ولكن معظم الشباب - لحسن الحظ - يتراجعون بعد حين ويُقرّون بأن لدى الأجيال السابقة ما لا يمكن تجاوزه؛ لأنه يشكّل هويةً ممتدةً لا يمكن الفكاك منها من دون القفز في الخواء الفادح. 

 

لعلَّ من أهمِّ ما ميَّز جيلنا هو مواكبة ما يُنتجه الغير المتعدِّد من نتاج نقديّ، هناك، وراء الضفَّة الغربيَّة، بالطبع لغايات مختلفة، فهل جيلكم يفعل الشيء نفسه أم هل يكتفي بالنزر الذي يُصادفه في الكتب النقديَّة العربية أو بعض الترجمات؟   

 

أتوقع أنه لا مناص من متابعة الآخر، والآن وقد تعددت وسائل الوصول إلى المعرفة وأصبحت أكثر سهولة، وتعددت الترجمات من اللغات المختلفة، فليس الباحث الجاد معذورا من النهل من إنتاج الغير المتعدد. ولكن علينا أن نحدد عن أي باحث نتحدث؟ ذكرتُ قبل قليل الباحث  الجاد، وما لم يكن جاداً تسقط عنه الكلمة الأولى (الباحث) من الأساس. ولكن التحدي في وقتنا الحاضر أكبر في زمن الانفجار المعرفي في التخصص الواحد، وأصبحت المواكبة تتطلب جهداً مضاعفاً، كما تتطلب وفرة المنجز بلغاته الأصلية، والمترجَم منه، وتراكمهما صبراً كبيراً.

 

لقد تعرفت إليك بوصفك باحثة طموحة منشغلة بعديد من الأسئلة النقديَّة، وبخاصَّة سؤال الهامش في الرواية، وقد ناقشت أطروحة الدكتوراه في الموضوع نفسه، فهل الخلاصات التي انتهيت إليها في ما يخصُّ الرواية الخليجيَّة كافية أم هل ما زال الموضوع يحتاج إلى مزيد من التمحيص في ضوء مقاربته على نحو موسَّع في الرواية العربيَّة كلِّها؟ 

 

في البحوث الأكاديمية عادة ما يكون الباحث أمام إكراهاتٍ لا حصر لها، وأولها تحديد نطاق البحث جغرافياً أو زمنياً أو غيرهما بما يحدد المدونة تحديداً دقيقاً، فلا يجد الباحث مفراً من تسليط عدسته على أدبٍ معيّنٍ أو بقعةٍ جغرافيةٍ معينة، وهكذا وجدتُ أنه لا بد أن أركز على حيز معين فاخترت الحيز الذي أعرفه جيداً، وهو حيز الأدب المنجز في منطقة الخليج، وخرجت من التجربة بأشكال هامش ربما تختلف عن أشكاله لو درستُ في روايات حيز آخر. لذلك فإن الخلاصات التي توصلت إليها قابلة للتوسع من دون شك فيما لو انفتحتُ – في نطاق الموضوع نفسه - على الرواية العربية أو حتى العالمية.

 

اتَّبعت في دراسة الهامش على تصوُّر نظريٍّ مستقى من النقد الثقافيّ، وربّما فعلت هذا نتيجة طبيعة الموضوع المعالج. لكن ألا تشعرين - وأنت قد أنهيت عملك وناقشته - أنّ هذا التصوُّر يحوِّل النص الأدبيّ إلى وثيقة لتكليم غايات غير أدبيَّة، بمعنى آخر: إنَّ كلَّ حقل له مقوِّماته التي تجعله قائمًا بذاته، مختلفًا عن الحقول الأخرى، وهذه المقوِّمات هي ما يؤسس بها المعنى؛ ومن ثمَّة ليس بمستطاع النقد الثقافيّ أن يُقارب إشكالات الأدب؟ 

 

أتصور أن النقد الثقافي ميدانٌ كبيرٌ تجتمع فيه أشكالٌ إنتاجيةٌ كثيرة، ويتيح المجال أمام الباحث لتقليب الأشياء، ومساءلتها بأدواته الخاصة والمتنوعة في آن واحد، بيد أن النقد الثقافي يحتاج إلى دعامات تسنده حتى لا يتحول إلى أداة مائعة بلا ضوابط، تتناول كل شيء بأي شيء. في بحثي للدكتوراه اخترت دراسة موضوع الهامش في التجربة الخليجية من خلال النقد الثقافي لأنه كان الطريقة الأمثل للاقتراب من حقل الألغام هذا، وأظنه كان ملبّياً لكثير من متطلبات البحث وأسئلته الرئيسة والفرعية. وفي تصوري أن النقد الثقافي ما يزال في طور التكوّن، ولم يصل بعد بصفته رؤيةً نقديةً إلى مرحلة الاكتمال على المستوى النظري والإجرائي، ولم يخرج بعد من عهدة المؤسسين إلى ميدان التجريب الحقيقي في الحقول التي يُعنى بها، ولكني أجزم أنه تصورٌ واعدٌ بالكثير.

 

تعرَّفت إلى منى الباحثة، لا الشخص، في عديد من المقالات التي أصدرتْها، أو ألقتْ بعضها، وهي دراسات تنمُّ عن شخصية نقديَّة تتَّصف بالطموح، ولا أشكُّ في أنّها ستقول كلمتها في المستقبل؛  وهي تبدو في ما تكتبه متسائلة من دون التقيُّد بإطار نظريّ محدَّد، فهل يعني هذا أنَّ منى تبحث لها عن موقع خاصٍّ بها يُميِّزها في خارطة النقد، أم هل يعني اختيارًا يستند إلى مسوِّغات معيَّنة؟ 

 

قد لا أكون ممتنة لشيء قدر امتناني لمتابعتك لي، وفي هذا تشجيع ومسؤولية. في الواقع أود لو أقول إني أبحث عن طريقة خاصة وموقع خاص، ولكني لا أملك الثقة التي تخولني التبجح بشيء كهذا. ما أفعله أني أحاول - لا سيما في المقالات النقدية - أن أفتش عن إجابات خاصة من خلال النص نفسه. يهمني أكثر أن أصل إلى القارئ العادي/ القارئ العابر/ القارئ الند، وليس القارئ المتخصص وحسب. أحلم بكتابة نقدية لا تُكتب للأقران والزملاء من المتخصصين، وينفر منها القراء الذين يفترض أننا نكتب مقالاتنا النقدية لتقريب المسافة بينهم وبين النصوص الأدبية التي نقاربها. قد لا ألتزم بإطار نقدي محدد، ولكني أحاول ألا أنفلت منه تماماً. فمثلاً في أطروحة الدكتوراه - كما أسلفت في إجابة السؤال السابق - توسلت في بحث موضوعي فيها بالنقد الثقافي، بيد أني قيدته بمحددات إجرائية تشده إلى منهجية متماسكة، وأرجو أن أكون قد نجحت ولو قليلاً. وأعترف بأنني كثيراً ما أشك فيما أكتب، ولا أعرف بعد فراغي منه ما إذا كان ذا قيمة أم لا، ويصل الحال أحياناً إلى أنني لا أعرف كيف أصنّفه. وبسبب هذا الشك الدائم أُتلف الكثير من المقالات التي أنفق فيها وقتاً وجهداً، حتى اهتديت مؤخراً إلى طريقة تجعلني أملك جرأة الحكم عليها، وهي تحديد قراء متنوعين من حيث الاهتمامات والتخصصات ممن أثق أنهم لا يجاملون، فعلى الأقل صرت أخرج منهم بنسبة تحكيم قد تنقذ الجهد من الإعدام. ولا أعرف ما إذا كانت هذه الحالة متكررة عند آخرين أو حتى إذا كانت صحية أو مرضية من الأساس، ولكني أعرف أنها على الأقل تدفعني في كل مرة لبذل جهد أفضل.

 

أعترف أنَّ جيلنا، أو على الأقلِّ أنا، لم أُعط التراث - في بداياته- الأهمَّية نفسها التي أعطيتها النتاجَ الحديث، لكنّني انتهيت في نهاية المطاف -بعد عقود- إلى اكتشاف فداحة هذا الاختيار، إذ تبيَّن لي أنَّ أسئلة التراث لا تقلُّ أهمِّية عن أسئلة الحاضر، فلربّما كانت ضرورية لفهم ما يجري حاليًا. فما موقف منى من التراث، وما المنظور التي ترى منه إليه؟   

 

يبدو أننا جميعاً (أو معظمنا) لابد أن ننطلق من نقطة ما؛ فالملاحظة التي تتفضل بها قد سبق أن قرأتها من أكثر من شخص في سيرهم الذاتية، وهناك آخرون فعلوا العكس، أي التفتوا إلى التراث على حساب النتاج الحديث. وأتصور أننا في مرحلة ما سندرك أهمية الانعطاف إلى البستان الآخر بعدما نشعر أن ما حصلنا عليه في أحدهما يُعين على ارتياد آفاق البستان الآخر، ولا يهم بأيٍّ منهما قد بدأنا. الأمر في بدهيته قد يكون حصيلة مجموعة من الأسباب: منها غياب التوجيه المبكر في البناء المعرفي الذي غالباً ما يكون صادرا عن اختيارات شخصية، ونجدنا في تلك المرحلة نتبع الإثارة والشغف لإشباع نهمنا المعرفي، قبل أن نبدأ في طرح السؤال، ومتى ما بدأنا في طرح السؤال تكون الخيارات أمامنا قد انفتحت بشكل أوسع، وإذا بنا نذهب إليها بوعي أكبر.