رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الندّاهة» ورحلة «البغدادى» إلى «قاهرة المعز»

لا يملك الإنسان مع أقداره اختيارًا. ليس أمامه سوى التسليم لرياح القدر حين تهب. فلا يوجد مخلوق يختار اسمه أو جنسه أو مسقط رأسه أو دينه أو لغته، فما بالك بيوم ميلاده أو خروجه من فوق ظهر الدنيا إلى باطنها.

فى أحد أيام الله ولد «خليل أفندى البغدادى». لقبه دال على مولده بمدينة بغداد التى كانت تكنّى بـ«دار السلام». أبوه كان عينًا من أعيان المدينة يرفل فى العز والمال، وفوق هذا وذاك كان صاحب نفوذ، يتمتع بعلاقات وطيدة مع حاكمها «عثمان باشا».

فى بيت عز وجاه وحيوية وانطلاق عاش الطفل «خليل» هانئًا ناعم البال وسط مجموعة من إخوته الذين أحبهم وأحبوه. وبفضل ظروف النشأة أحب «خليل» الحياة وصفت نفسه ونفسيته وأصبح ميالًا إلى الدعابة والنكتة، شغوفًا بالاستماع إلى الحكايات، وتمتع بذاكرة حافظة استوعبت الكثير مما سمعه أو شاهده فى البيئة المحيطة به.

لو كان أمر الدنيا بيده لاختار «خليل» أن يتجمد الزمن عند لحظة الطفولة الهانئة التى عاشها فى بيت العز ببغداد، لكن سفينة الأقدار كان لها رأى آخر، حين حملته من بغداد إلى «القاهرة».

هجم الفارسى «طهماز» على بغداد كجزء من الصراع الذى لم يهدأ بين العثمانيين والفرس طيلة القرن الثامن عشر الميلادى، وبدلًا من أن يواجهه الوالى العثمانى «عثمان» باشا ويحول دونه ودون الأهالى، فر بنفسه وترك بغداد ومن فيها «ونفد بعمره»، وفرت وراءه مجموعة من كبار المتنفذين فى قصر حكمه.

المسكين «والد خليل أفندى» لم يستطع الهرب، ووقع فريسة فى يد «طهماز». كان كثيرون يعلمون العلاقة التى ربطت «أبوخليل» بالوالى العثمانلى، وكان من الطبيعى أن تصل هذه المعلومات إلى «طهماز» الذى أراد أن يعرف أين يخفى الوالى الهارب أمواله؟.

مثل هذا السر لم يكن من الوارد أن يفضى به «عثمان باشا» إلى «أبوخليل». فالمال محله القلب وسره محله عقل صاحبه ويصعب أن يشارك فيه غيره مهما كانت درجة قربه منه. ألقت قوات «طهماز» القبض على «أبوخليل»، واستولت على ماله، وظلوا يضغطون على الرجل حتى يقر بمكان خبيئة الوالى، لكن المسكين لم يكن يعرف أصلًا، وكانت النتيجة أن هلك بين أيديهم.

لم يكن أمام زوجات وأولاد عائلة «أبوخليل» سوى الفرار من بغداد، لكن الظروف حالت بينهم وبين الفرار «الجماعى»، ففر كل منهم بنفسه فى أرض الله الواسعة وشاء الله أن يلتقط مجموعة من التجار الصغير «خليل» ليفد معهم إلى القاهرة.

نادته «النداهة» فأحب أرضها وشغف بناسها. وكذلك كانت، ولا تزال، قاهرة المعز قادرة على اختطاف قلب من يقع نظره عليها أو يسير فوق ترابها أو يشرب من ماء نيلها. نادته «النداهة» فهرول نحوها وارتمى فى حضنها وحضن أهلها، وذاب مثل غيره من الغرباء فيها، وصهره الكرم والأنس المصريان، فأصبح مصريًا بالانصهار، بغداديًا بالأصالة.

تحوّل «خليل البغدادى» إلى «خليل القاهرى»، وعرف بيوت كبارها كواحد من أمهر لاعبى «الشطرنج»، تلك اللعبة الرائقة التى يجيد فيها صاحب البال الخالى القادر على التركيز واستغلال أخطاء الغير. عرف «خليل» أيضًا كحكاء ماهر، أحب أعيان القاهرة التسلى بحديثه، وكان شديد الحرص على اقتناء الكتب التى يجد فيها مادة جيدة يستطيع أن يوظفها فى مسامراته مع الكبار وحكاياته التى يحكيها لهم.

مجموعة المواهب تلك مكنت «خليل» من التجول بين بيوت وقصور الكبار، ومن بينهم كما ذكر «الجبرتى» فى ترجمته: عبدالرحمن بك عثمان وسليمان بك الشابورى وسليمان البرديسى والسيد حسن العطار وغيرهم.

حاجة الكبار إلى التسلية مُلحة، وشوقهم إلى الحكابة والنكتة واللعبة والطرفة كبير، لذلك كان من الطبيعى أن يجد «خليل أفندى» مساحة كبيرة لديهم، فأغدقوا عليه من كرمهم ما واساه عما افتقده فى بغداد، ومنحه شعورًا بأن شيئًا لم يتغير فى الحياة عند الانتقال من «دار السلام» إلى «المحروسة».

ولأن العرق دساس فقد نهج «خليل» نهج أبيه. فكما ارتبط الأب بوالى بغداد ارتبط الابن بواحد من حكام مصر فى ذلك الزمن وهو «مراد بك» الذى تشارك مع غريمه «إبراهيم بك» فى حكم البلاد. يقول «الجبرتى»: «عاشر الأمير مراد بك واختص به وأحبه، فكان يجوّد له الخط ويناقله فى الشطرنج، وأغدق عليه فراج حاله».

لم يتعلم «خليل» من تجربته أن الدنيا لا تؤمن، وأن ضربات القدر لا يسلم منها إنسان، فلم يدخر من رخائه لشدته، بل كان كريمًا سخيًا يميل على كل من يريد بالنفحات التى توضع فيه يده داخل بيوت وقصور الأمراء والكبراء، ولا يبقى على دينار ودرهم.

شاء الله أن تتبدل الأحوال وتدير الأيام ظهرها لخليل البغدادى. ففى إطار منافساته مع إبراهيم بك اضطر مراد إلى الخروج من القاهرة، وأصبح خليل هو الذى يعطى الأمير ويرعاه، فباع كتبه وأنشأ ينفق منها على بر الأمير وتوفير ما يلزمه وكان يذهب إليه، كما يحكى الجبرتى، وعبه مليان بالمآكل الجافة مثل التمر والكعك والفاكهة.

عاش «خليل البغدادى» بارًا بكل من حوله، كجزء من حبه للناس، الذى كان جزءًا من محبته للحياة وشغفه بالعيش الهانئ المستقر والاستمتاع بجمال الدنيا، وكان يحب الغناء والموسيقى بشكل خاص، وفى الوقت نفسه كان حريصًا على «المكتوبة»، أى الصلاة، كما يقول الجبرتى.

ظل «خليل البغدادى» يقاوم ضربات الحياة، ويحاول الاستمتاع بها، حتى ولو ألقت إليه بأقل القليل، إلى أن واجه ما لم يستطع دفعه عن نفسه.

إنه الوباء.. وباء الطاعون الذى ضرب مصر عام ١٧٨٧.. أُصيب المسكين بالطاعون، بعد أن انتقلت عدوى المرض إليه من أحد البيوت التى كان يدخلها، وخرج منها مطعونًا. ظل «خليل» يعانى من المرض، لكن الله تعالى لم يرد أن يطيل عليه ألمه، فتألم يومين ثم توفاه الله فى الثالث، وشيّعه الناس بدموعهم.

وقد وصف «الجبرتى» خليل البغدادى قائلًا: «كانت أفاعيله وطباعه تدل على جودة أصله وطيب أعراقه وأصوله».