رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن نثق بما نراه كيف غيرت الفوتوغرافيا أفكارنا (كيف تبدو الجنة )

صباح يوم سبت في خريف 1941يصور ستانلي إدلين الفنان إدغار لوفيل سميث ، حينما يتسلم  الأخير الصورة يصيبه الذهول حيث يظهر جالسا ومحدقا لشبح رأس معلق غير واضح وضخم ،يعلق مصدوما ومؤكدا بأنه كان وحده أثناء التصوير 

https://www.canterbury.ac.nz/exhibition/southern-spirits/site_graphics/Spirit%20Photography%20I.JPG
Edgar Lovell-Smith 

 

في عام 1936 ، كان المصور هوبرت بروفاند ومساعده إندري شيرا على وشك التقاط صورة للسلم الرئيسي في Raynham Hall ، نورفولك ، إنجلترا عندما رأيا فجأة "شكلًا نورانيا بدأ في الظهورتدريجياً واتضح أنه شبح لإمرأة تنزل السلم باتجاههما" في ثوان  التقطت الصورة ونشرت في Country Life وعرفت باسم السيدة البنية "The Brown Lady". يعتقد البعض أنها كانت شخصية السيدة دوروثي تاونسند ، التي قيل إنها تطارد القاعة منذ وفاتها الغامضة في عام 1726.

The Brown Lady of Raynham Hall: The ghostly form seen here was thought to be caused by the camera being shaken during a long exposure (Credit: Captain Provand)
The Brown Lady".

استيقظ الأمريكيون في يوم عابر من العام 1870 ،  علي عودة الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن بعد خمس سنوات من اغتياله تذهب السيدة الأولي ماري تود لينكولن طواعية  لأشهر مصور روحي في العالم في ذلك الوقت (وليام موملر) لالتقاط صورة تجمعها مع روح زوجها الراحل ،تظهر الروح تحتضنها بحنو وتواسيها ،إنها صورة حداد ، لكنها مريحة في نفس الوقت، ألا نريد جميعًا أن نعرف أن أحبائنا الذين ماتوا ما زالوا بالقرب منا ويراقبوننا ، حتى يومنا هذا؟

https://cdn.theatlantic.com/assets/media/img/posts/ghost_of_abraham_lincoln_with_mary_lincoln_1869_invitation-r776c79a0ede9470092ce32dc1dd1fd9f_8dnrb_8byvr_512.jpg
صورة لماري تود لينكولن ، التقطت في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشربواسطة ويليام إتش موملر ، مع "روح" زوجها

بعد وقت قصير من اختراع التصوير الفوتوغرافي ، ظهر مصورو الروح في الولايات المتحدة وإنجلترا ، بيعت صور "الأشباح" تجاريًا من أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر ، كبطاقات وألعاب تسلية ولم تُبذل أي محاولة لتقديمها كصور روحية حقيقية ،كان إنتاج صور "الأشباح" سهلًا نسبيًا ، كما ظهرت تعليمات حول كيفية صنعها في العديد من المنشورات

تطورتصوير الروح من التسلية إلى  خلق عالم روحاني "بديل للحياة الدنيا " في بريطانيا وأمريكا ، مجسدا الجمع ما بين الغموض والدراما  . لقد تغذى تصوير الأرواح بسبب عدد من الإتجاهات والعوامل الثقافية المعاصرة، ليس من الصعب أن نفهم سبب إعجاب الأمريكيين في القرن التاسع عشر بالحركة الروحانية المتنامية ،فعندما ظهر التصوير الفوتوغرافي للروح في منتصف القرن التاسع عشر ، كانت الولايات المتحدة تترنح من الحرب الأهلية ، التي أودت بحياة 620 ألف شخص، في حزن عميق ، انجذب الأمريكيون إلى أي شخص قدم اتصالاً عابرًا بأرواح فقيدهم الغالي،وقام الوسطاء بأداء جلسات تحضير الأرواح مصحوبة بإعلان عنوانه (يمكن للأحياء التحدث مع الموتى) .

Image may contain Water Human Person Fountain and Drinking Fountain
William H. Mumler-خمسة أرواح في خلفية صورة التقطت في بوسطن.

 

سرعان ما انتهت الحركة في الولايات المتحدة وسط فوضى الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر ، وما تلاها من اعتراض المنتقدين، من هناك ، امتدت إلى بريطانيا ، حيث تأسست بقوة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

https://cdn.theatlantic.com/assets/media/img/posts/2781040010_904fd13b51_b.jpg
روح امرأة تبكي على زوجها في كنيسة صغيرة واقفة بجانب جسده ،.
 1920(وليام هوب ، مجموعة المتحف الوطني للإعلام)

انتشرت محاولات كثيرة خلال العصر الفيكتوري للنظر وفهم العالم وفق أسس علمية وقواعد تكنولوجية ،صار المجتمع أكثر قربا من العلوم الطبيعية وابتعادا عن الروحانيات والغيبيات بل إنكارها في كثير من الأحيان،ونمت التصورات العلمانية المتكررة بأن الدين التقليدي قد فقد مصداقيته بواسطة العلم الحديث

أما بالنسبة لهؤلاء الذين لازالوا متمسكين بالإيمان فكان العلم نفسه  بلا روح وغير مهيأ لتقديم الرضا الروحي أو تقديم إجابة للسؤال الذي يدور في أذهان كثير منهم ....هو إلي أين نذهب بعد الموت ؟ هل نعود ؟ وكيف تبدو الجنة؟

من هنا نشأت  الرغبة – ربما السياسية - في خلق شكل من أشكال الدين المرتبط بالعلم ،علما من نوع خاص نوع قاطع يجعلك تتوقف عن الاستقصاء والبحث المستمر ،علما يحقق التفاؤل الذي كان سائدا في تلك الحقبة  ،بل سيتحالف مع التوجة العام للدولة مجسدا بتمام اليقين الغيب أمام أعيننا . وكما يوضح الباحث الإنجليزي جين كادوالادر ، فإن التصوير الفوتوغرافي للروح قدم الإجابات، ووعد بتقديم دليل على عودة الموتي  وزيارة الأرواح من العالم الأخر للحياة الدنيا

من سلسلة من الأحداث الدرامية الخارقة للطبيعة في الولايات المتحدة ، التهمت الروحانيات كل منطق ، مدعية أنها التجسيد الروحي للحداثة. 

صورة أحد أبناء الملكة فيكتوريا ، الأمير آرثر ، التي التقطها روجر فينتون عام 1854 ، يمكن رؤية المربية تشبه الأشباح ، والتي من الواضح أنها قلقة من احتمال سقوطه من الصندوق الذي يقف عليه

يقول جين كادوالادر "تصوير الروح يقدم النسخة المطمئنة للحياة الآخرة ، لا سيما في عصر تآكل الإيمان."تناول التصوير الفوتوغرافي بالروح أيضًا مناقشات العصر حول طبيعة الروح، وحالات الإدعاء من فتيات حول اغتصاب الأرواح لهن  ، والتي أصبحت شائعة أيضًا في القرن التاسع عشر.

في هذه الحقبة الزمنية لم تكن الفوتوغرافيا هي الوحيدة المهتمة بعالم الروح فظهرت كتابات روائية تصف عالم الأشباح والأرواح وانتشرت ظاهرة الوسطاء الروحانين لكن الفوتوغرافيا هي التي قدمت أدلة ملموسة وإجابات  واضحة،  ما نراه نثق به لأنه يتجسد أمام أعيينا 

المتمسكون بوجهة النظر الدينية يرون أن الهوية الفردية لا توجد إلا خلال حياة البشر على الأرض  لكن في الأخرة جميع الأرواح الخالدة متطابقة لا مكان للمختلفين والمغردين عكس السرب .من هذا المنطلق وعد التصوير الروحاني بإثبات عكس ذلك،إذ  يصور الأرواح بهيئتها  الدنيوية بحيث يمكن لأقاربهم التعرف عليهم. 

وحقيقة أن الأرواح تظهر نفسها ، وتتمكن من العودة ،وإكمال رسالتها ، وتقديم إجابات لذويهم الحائرين ، رسخ صورة ذهنية لا يمكن إنكارها بأن الأرواح  محتفظة بخصوصيتها وقادرة على الاختيار الحر  وتظل مرتبطة عاطفياً بأحبائها على الأرض وهو ما يمثل مواساة للأحياء ويخفف وطأة الفقد كما يقدم دليلا علميا مثبتا مغايرا للصورة الذهنية التي يقدمها أرباب الدين بأن الأرواح  متشابهة ووفقًا لمصوري الروح وعملائهم ، فإن الأرواح في الصور لم تكن أبدًا انتقامية أو حزينة ، بل كانت محبة ورحيمة.

اتبعت الصور الفوتوغرافية  الروحانية تنسيقًا ثابتًا ، حيث يجلس قريب المتوفي في وسط الصورة بينما تنظر روح الراحل من الجانب. 

https://s.wsj.net/public/resources/images/BN-VR531_bkrvgh_JV_20171019102440.jpg
صورة لامرأة مجهولة الهوية مع "روح" أنثوية - William H. Mumler ، كاليفورنيا. 1862-1875

كتب كادوالادر "قدمت الصور وجودًا سماويًا مشابهًا بشكل مريح للحياة البشرية".تقول الباحثة  لفيا جرشون "بواسطة الفوتوغرافيا تمكن  الأقارب الأحياء من بناء صورة للحياة الأخرة ، لسماء تضم منازل ومدن وجميع الزخارف المألوفة للحياة على الأرض. إنها  الأرض بدون الخطيئة أو الموت أو الشرور "

استخدمت الروحانية ،  لتحقيق سعي العصر الفيكتوري للتجديد وسط المجتمع التقليدي،عبر تسريب التكنولوجيا والعلم في المفاهيم الغيبية والدينية ما ساهم في زيادة العلمنة .

يري الكاتب( كاد والدر)"أن التكنولوجيا الجديدة للتصوير الفوتوغرافي لم تنقل فقط فكرة أن الجنة كانت موجودة في شكل مادي يمكن للبشر فهمه. كما أنه يتناسب مع الفكرة الروحانية القائلة بأن الآلهة والحياة الآخرة يمكن تفكيكها وفهمها بشكل منهجي من خلال العلامات الجسدية في المجتمعات التي تركز بشكل متزايد على العلوم والأمور المادية ، قد يكون هذا هو السبيل الوحيد للطمأنة الروحية لكثير من الناس".

هل كان تصوير الأرواح  نتاج علمي بحت استخدم لخدمة أغراض أخري ؟ أم أنه يلامس إنسانيتنا ويرطب جفاف أرواحنا المنسحقة تحت وطأة الفقد ، هل نثق فيما نراه؟ كيف يمكننا أن نعرف على وجه اليقين؟ هذا ما نكتشفه في المقال القادم 

(يتبع)